ثم هذا لا يليق أن يذكر عن يوسف؛ لأنه قد ظهرت براءته، وحصل مطلوبه، فلا يحتاج أن يقول ذلك لتحصيل ذلك، وهم قد علموا أنه إنما تأخر لتظهر براءته، فلا يحتاج مثل هذا أن ينطق به.
الوجه الثامن : أن الناس عادتهم في مثل هذا يعرفون بما عملوه من لذلك عنده قدر، وهذا يناسب لو كان العزيز غيوراً، وللعفة عنده جزاء كثير، والعزيز قد ظهر عنه من قلة الغيرة وتمكين امرأته من حبسه مع الظالمين مع ظهور براءته؛ ما يقتضي أن مثل هذا ينبغي في عادة الطباع أن يقابل على ذلك بمواقعة أهله، فإن النفس الأمارة تقول في مثل هذا : هذا لم يعرف قدر إحساني إليه، وصوني لأهله، وكف نفسي عن ذلك، بل سلِّطها ومكِّنها.
فكثير من النفوس لو لم يكن في نفسها الفاحشة إذا رأت من حاله هذا تفعل الفاحشة، إما نكاية فيه ومجازاة له على ظلمه، وإما إهمالا له لعدم غيرته وظهور دياثته، ولا يصبر في مثل هذا المقام عن الفاحشة إلا من يعمل للّه خائفاً منه، وراجياً لثوابه، لا من يريد تعريف الخلق بعمله.
الوجه التاسع : أن الخيانة ضد الأمانة، وهما من جنس الصدق والكذب؛ ولهذا يقال : الصادق الأمين، ويقال : الكاذب الخائن. وهذا حال امرأة العزيز؛ فإنها لو كذبت على يوسف في مغيبه وقالت : راودني؛ لكانت كاذبة وخائنة، فلما اعترفت بأنها هي المراودة، كانت صادقة في هذا الخبر أمينة فيه؛ ولهذا قالت :﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ فأخبرت بأنه صادق في تبرئته نفسه دونها.