ولا يلتفت إلى الحكاية المذكورة عن مسلم بن يسار [ هو أبو عبد الله مسلم بن يسار البصري مولي بني أمية، فقيه ناسك من رجال الحديث، لا يفضل عليه أحد في زمانه، قال ابن سعد :( كان ثقة فاضلاً عابدًا ورعًا )، توفي سنة ١٠٠ هـ ] : أن أعرابية دعته إلى نفسها، وهما في البادية؛ فامتنع وبكي، وجاء أخوه وهو يبكي فبكي وبكت المرأة، وذهبت فنام فرأي يوسف في منامه، وقال : أنا يوسف الذي هممت، وأنت مسلم الذي لم تهم، فقد يظن من يسمع هذه الحكاية أن حال مسلم كان أكمل. وهذا جهل لوجهين :
أحدهما : أن مسلما لم يكن تحت حكم المرأة المراودة ولا لها عليه حكم، ولا لها عليه قدرة أن تكذب عليه، وتستعين بالنسوة / وتحبسه، وزوجها لا يعينه ولا أحد غير زوجها يعينه على العصمة، بل مسلم لما بكى ذهبت تلك المرأة، ولو استعصمت لكان صراخه منها أو خوفها من الناس يصرفها عنه. وأين هذا مما ابتلي به يوسف ـ عليه الصلاة والسلام ؟ !
الثاني : أن الهم من يوسف لما تركه للّه كان له به حسنة، ولا نقص عليه. وثبت في الصحيحين من حديث السبعة الذين يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله :( رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال : إني أخاف اللّه رب العالمين ) وهذا لمجرد الدعوة، فكيف بالمراودة والاستعانة والحبس ؟
ومعلوم أنها كانت ذات منصب، وقد ذُكِرَ أنها كانت ذات جمال وهذا هو الظاهر، فإن امرأة عزيز مصر يشبه أن تكون جميلة، وأما البدوية الداعية لمسلم فلا ريب أنها دون ذلك، ورؤياه في المنام وقوله : أنا يوسف الذي هممت، وأنت مسلم الذي لم تهم؛ غايته أن يكون بمنزلة أن يقول ذلك له يوسف في اليقظة، وإذا قال هذا، كان هذا خيراً له ومدحاً وثناء، وتواضعا من يوسف، وإذا تواضع الكبير مع من دونه لم تسقط منزلته.


الصفحة التالية
Icon