ومما يوضح ذلك : أنه لما قال :﴿ مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ﴾ قال بعدها :﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ﴾ [ النساء : ٧٩ ]، فإنه قد شهد له بالرسالة بما أظهره على يديه من الآيات والمعجزات، وإذا شهد الله له كفى به شهيداً، ولم يضره جحد هؤلاء لرسالته، بما ذكروه من الشبه التى هى عليهم لا لهم، بما أرادوا أن يجعلوا سيئاتهم وعقوباتهم حجة على إبطال رسالته، والله ـ تعالى ـ قد شهد له أنه أرسله للناس رسولا، فكان ختم الكلام بهذا إبطالا لقولهم : إن المصائب من عند الرسول؛ ولهذا قال بعد هذا :﴿ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [ النساء : ٨٠ ].

فصل


وكان فيما ذكره إبطال لقول الجهمية المجبرة ونحوهم، ممن يقول : إن الله قد يعذب العباد بلا ذنب، وأنه قد يأمر العباد بما لا ينفعهم، بل بما يضرهم، فإن فعلوا ما أمرهم به حصل لهم الضرر، وإن لم يفعلوه عاقبهم.
يقولون هذا ومثله، ويزعمون أن هذا لأنه يفعل ما يشاء.
والقرآن يرد على هؤلاء من وجوه كثيرة، كما يرد على المكذبين بالقدر.
فالآية ترد على هؤلاء وهؤلاء ـ كما تقدم ـ مع احتجاج الفريقين بها، وهي حجة على الفريقين.
فإن قال نفاة القدر : إنما قال فى الحسنة : هى من الله، وفى السيئة : هى من نفسك، لأنه يأمر بهذا، وينهى عن هذا، باتفاق المسلمين.
قالوا : ونحن نقول : المشيئة ملازمة للأمر، فما أمر به فقد شاءه، وما لم يأمر به لم يشأه. فكانت مشيئته وأمره حَاضَّة على الطاعة دون المعصية؛ فلهذا كانت هذه منه دون هذه.
قيل : أما الآية، فقد تبين أن الذين قالوا : الحسنة من عند الله والسيئة من عندك، أرادوا : من عندك يا محمد، أى : بسبب دينك. فجعلوا رسالة الرسول هى سبب المصائب، وهذا غير مسألة القدر.


الصفحة التالية
Icon