وأما المتنبئون الكذابون، فلا يطيل تمكينهم، بل لابد أن يهلكهم؛ لأن فسادهم عام في الدين والدنيا والآخرة، قال تعالى :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ [ الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦ ]، وقال تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ [ الشورى : ٢٤ ]، فأخبر أنه ـ بتقدير الافتراء ـ لابد أن يعاقب من افترى عليه.

فصل


وهذا الموضع مما اضطرب فيه الناس، فاستدلت القدرية النفاة والمجبرة على أنه إذا جاز أن يضل شخصاً، جاز أن يضل كل الناس. وإذا جاز أن يعذب حيواناً بلا ذنب ولا عوض، جاز أن يعذب كل حي بلا ذنب ولا عوض، وإذا جاز عليه ألا يعين واحداً ممن أمره على طاعة أمره، جاز ألا يعين كل الخلق. فلم يفرق الطائفتان بين الشر الخاص والعام، وبين الشر الإضافى، والشر المطلق، ولم يجعلوا فى الشر الإضافى حكمة يصير بها من قسم الخير.
ثم قال النفاة : وقد علم أنه منزه عن تلك الأفعال، فإنا لو جوزنا عليه هذا لجوزنا عليه تأييد الكذاب بالمعجزات، وتعذيب الأنبياء وإكرام الكفار، وغير ذلك، مما يستعظم العقلاء إضافته إلى اللّه ـ تعالى.
فقالت المثبتة من الجهمية المجبرة : بل كل الأفعال جائزة عليه، كما جاز ذلك الخاص، وإنما يعلم أنه لا يفعل بما لا يفعل، أو يفعل ما يفعل بالخبر، خبر الأنبياء عنه. وإلا فمهما قدر جاز أن يفعله، وجاز ألا يفعله، ليس فى نفس الأمر سبب ولا حكمة، ولا صفة تقتضي التخصيص ببعض الأفعال دون بعض، بل ليس إلا مشيئة، نسبتها إلى جميع الحوادث سواء، ترجح أحد المتماثلين بلا مرجح.
فقيل لهم : فيجوز تأييد الكذاب بالمعجز، فلا يبقى المعجز دليلا على صدق الأنبياء. فلا يبقى خبر نبى يعلم به الفرق، فيلزم ـ مع الكفر بالأنبياء ـ ألا يعلم الفرق، لا بسمع ولا بعقل.


الصفحة التالية
Icon