ولكن إذا علم التحريم فاعتقده، أثيب على اعتقاده، وإذا ترك ذلك ـ مع دعاء النفس إليه ـ أثيب ثوابا آخر، كالذي تدعوه نفسه إلى الشهوات فينهاها، كالصائم الذي تشتهي نفسه الأكل والجماع فينهاها، والذي تشتهي نفسه شرب الخمر والفواحش فينهاها. فهذا يثاب ثواباً آخر، بحسب نهيه لنفسه، وصبره على المحرمات، واشتغاله بالطاعات التى هي ضدها، فإذا فعل تلك الطاعات، كانت مانعة له عن المحرمات.
وإذا تبين هذا، فالحسنات التى يثاب عليها كلها وجودية، نعمة من اللّه ـ تعالى ـ وما أحبته النفس من ذلك، وكرهته من السيئات، فهو الذي حبب الإيمان إلى المؤمنين، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.

فصل


وأما السيئات، فمنشؤها الجهل والظلم، فإن أحداً لا يفعل سيئة قبيحة إلا لعدم علمه بكونها سيئة قبيحة، أو لهواه وميل نفسه إليها.
ولا يترك حسنة واجبة إلا لعدم علمه بوجوبها، أو لبغض نفسه لها.
وفى الحقيقة، فالسيئات كلها ترجع للجهل، وإلا فلو كان عالماً علماً نافعاً بأن فعل هذا يضره ضرراً راجحاً ولم يفعله؛ فإن هذا خاصية العاقل؛ ولهذا إذا كان من الحسنات ما يعلم أنه يضره ضراراً راجحاً، كالسقوط من مكان عال، أو في نهر يغرقه، أو المرور بجنب حائط مائل، أو دخول نار متأججة، أو رمي ماله فى البحر ونحو ذلك، لم يفعله، لعلمه بأن هذا ضرر لا منفعة فيه. ومن لم يعلم أن هذا يضره ـ كالصبى، والمجنون، والساهي، والغافل ـ فقد يفعل ذلك.
ومن أقدم على ما يضره ـ مع علمه بما فيه من الضرر عليه ـ فلظنه أن منفعته راجحة.
فإما أن يجزم بضرر مرجوح، أو يظن أن الخير راجح، فلابد من رجحان الخير، إما فى الظن وإما فى المظنون، كالذي يركب البحر ويسافر الأسفار البعيدة للربح، فإنه لو جزم بأنه يغرق أو يخسر لما سافر، لكنه يترجح عنده السلامة والربح، وإن كان مخطئاً فى هذا الظن.


الصفحة التالية
Icon