في قوله تعالى :﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [ الزمر : ٥٣، ٥٤ ]. وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية في حق التائبين، وأما آيتا النساء، قوله :﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ﴾ [ النساء : ٤٨، ١١٦ ]، فلا يجوز أن تكون في حق التائبين، كا يقوله من يقوله من المعتزلة، فإن التائب من الشرك يغفر له الشرك ـ أيضًا ـ بنصوص القرآن واتفاق المسلمين. وهذه الآية فيها تخصيص وتقييد، وتلك الآية فيها تعميم وإطلاق، هذه خَصَّ فيها الشرك بأنه لا يغفره، وما عداه لم يجزم بمغفرته، بل علَّقه بالمشيئة فقال :﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ﴾.
وقد ذكرنا ـ في غير موضع ـ أن هذه كما تَرُدُّ على الوعيديَّة من الخوارج والمعتزلة، فهى تَرُدُّ ـ أيضًا ـ على المرجئة الواقفية، الذين يقولون : يجوز أن يعذب كل فاسق فلا يغفر لأحد، ويجوز أن يغفر للجميع، فإنه قد قال :﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ﴾ فأثبت أن ما دون ذلك هو مغفور لكن لمن يشاء، فلو كان لا يغفره لأحد بطل قوله :﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ﴾، ولو كان يغفره لكل أحد بطل قوله :﴿ لِمَن يَشَاء ﴾، فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك وأن المغفرة هى لمن يشاء، دل ذلك على وقوع المغفرة العامة مما دون الشرك، لكنها لبعض الناس.


الصفحة التالية
Icon