وحينئذ، فمن غُفِر له لم يُعذَّب، ومن لم يُغْفَر له عُذِّب، وهذا مذهب الصحابة والسلف والأئمة، وهو القطع بأن بعض عصاة الأمة يدخل النار وبعضهم يغفر له، لكن هل ذلك على وجه الموازنة والحكمة، أو لا اعتبار بالموازنة ؟ فيه قولان للمنتسبين إلى السنة من أصحابنا وغيرهم، بناء على أصل الأفعال الإلهية، هل يعتبر فيها الحكمة والعدل ؟ وأيضًا، فمسألة الجزاء فيها نصوص كثيرة دلت على الموازنة، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن قوله :﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ [ الزمر : ٥٣ ]، فيه نهى عن القنوط من رحمة الله ـ تعالى، وإنْ عَظُمَت الذنوب وكثرت، فلا يَحِل لأحد أن يقنط من / رحمة الله وإن عَظُمَت ذنوبه، ولا أن يُقَنِّط الناس من رحمة الله. قال بعض السلف : إنَّ الفقيه ـ كل الفقيه ـ الذى لا يُؤْيِس الناس من رحمة الله، ولا يُجَرِّيهم على معاصى الله.
والقنوط يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له، إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ويغفر ذنوبه، وإما بأن يقول : نفسه لا تطاوعه على التوبة، بل هو مغلوب معها، والشيطان قد استحوذ عليه، فهو ييأس من توبة نفسه، وإن كان يعلم أنه إذا تاب غفر الله له، وهذا يعترى كثيرًا من الناس. والقنوط يحصل بهذا تارة، وبهذا تارة، فالأول : كالراهب الذى أفتى قاتل تسعة وتسعين أن الله لا يغفر له، فقتله وكَمَّلَ به مائة، ثم دُلَّ على عالم فأتاه فسأله فأفتاه بأن الله يقبل توبته. والحديث في الصحيحين. والثاني : كالذى يرى للتوبة شروطًا كثيرة، ويقال له : لها شروط كثيرة، يتعذر عليه فعلها، فييأس من أن يتوب.


الصفحة التالية
Icon