ثم يقال : الراؤون كلهم في جهة واحدة على الأرض، وإن قدر أن المرئي ليس في جهة، فكيف يجوز أن يقال : لا تضمكم جهة واحدة، وهم كلهم على الأرض ـ أرض القيامة ـ أو في الجنة، وكل ذلك جهة، ووجودهم نفسهم لا في جهة ومكان ممتنع حسا وعقلا.
وأما قوله : هو يري لا في جهة فكذلك يراه غيره. فهذا تمثيل باطل، فإن الإنسان يمكن أن يري بدنه، ولا يمكن أن يري غيره، إلا أن يكون بجهة منه، وهو أن يكون أمامه، سواء كان عاليًا أو سافلًا.
وقد تُخْرَق له العادة فيرى من خلفه، كما قال النبي ﷺ :( إني لأراكم من بعدي )، وفي رواية :( من بعد ظهري )، وفي لفظ للبخاري :( إني لأراكم من ورائي )، وفي لفظ في الصحيحين :( إني واللّه لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي )، لكن هم بجهة منه، وهم خلفه، فكيف تقاس رؤية الرائي لغيره على رؤيته لنفسه ؟
ثم تشبيه رؤيته هو برؤيتنا نحن تشبيه باطل، فإن بصره يحيط بما رآه بخلاف أبصارنا.
وهؤلاء القوم، أثبتوا ما لا يمكن رؤيته، وأحبوا نصر مذهب أهل السنة والجماعة والحديث، فجمعوا بين أمرين متناقضين، فإن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه يمتنع أن يري بالعين لو كان وجوده في الخارج ممكنًا، فكيف وهو ممتنع ؟ وإنما يقدر في الأذهان من غير أن يكون له وجود في الأعيان، فهو من باب الوهم والخيال الباطل.
ولهذا فسروا [ الإدراك ] بالرؤية في قوله :﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ﴾ [ الأنعام : ١٠٣ ]، كما فَسَّرَتْها المعتزلة، لكن عند المعتزلة : هذا خرج مخرج المدح فلا يري بحال، وهؤلاء قالوا : لا يرَي في الدنيا دون الآخرة.


الصفحة التالية
Icon