وقد قال تعالى :﴿ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [ النمل : ٦٥ ]، فاستثني نفسه، والعالم ﴿ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾. ولا يجوز أن يقال : هذا استثناء منقطع؛ لأن المستثني مرفوع، ولو كان منقطعًا لكان منصوبا. والمرفوع على البدل، والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو بمنزلة المفرغ، كأنه قال :( لا يعلم الغيب إلا اللّه ). فيلزم أنه داخل في :﴿ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.
وقد قدمنا أن لفظ ( السماء ) يتناول كل ما سما، ويدخل فيه السموات، والكرسي، والعرش، وما فوق ذلك؛ لأن هذا في جانب النفي، وهو لم يقل هنا : السموات السبع، بل عم بلفظ :( السموات ). وإذا كان لفظ ( السماء ) قد يراد به السحاب، ويراد به الفلك، ويراد به ما فوق العالم، ويراد به العلو مطلقًا، فـ ( السموات ) : جمع ( سماء )، وكل من فيما يسمي ( سماء )، وكل من فيما يسمي ( أرضًا ) لا يعلم الغيب إلا اللّه.
وهو ـ سبحانه ـ قال :﴿ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن ﴾، ولم يقل :[ ما ]، فإنه لما اجتمع ما يعقل وما لا يعقل غلب ما يعقل وعبر عنه بـ [ من ] لتكون أبلغ، فإنهم مع كونهم من أهل العلم والمعرفة لا يعلم أحد منهم الغيب إلا اللّه.
وهذا هو الغيب المطلق عن جميع المخلوقين الذي قال فيه :﴿ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ﴾ [ الجن : ٢٦ ]. والغيب المقيد ما علمه بعض المخلوقات من الملائكة أو الجن أو الإنس وشهدوه، فإنما هو غيب عمن غاب عنه، ليس هو غيبًا عمن شهده. والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا، فيكون غيبًا مقيدًا، أي : غيبًا عمن غاب عنه من المخلوقين، لا عمن شهده، ليس غيبًا مطلقًا غاب عن المخلوقين قاطبة.
وقوله :﴿ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [ الزمر : ٤٦ ]، أي عالم ما غاب عن العباد مطلقًا ومعينًا وما شهدوه، فهو ـ سبحانه ـ يعلم ذلك كله.