وفي جميع هذه الآيات ـ مطلقها ومقيدها والجامع بين المطلق والمقيد ـ قد ذكر خلقه، وذكر هدايته وتعليمه بعد الخلق، كما قال في هذه السورة :﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [ الأعلى : ٢، ٣ ]. / لأن جميع المخلوقات خلقت لغاية مقصودة بها، فلابد أن تهدى إلى تلك الغاية التي خلقت لها. فلا تتم مصلحتها وما أريدت له إلا بهدايتها لغاياتها.
وهذا مما يبين أن الله خلق الأشياء لحكمة وغاية تصل إليها، كما قال ذلك السلف وجمهور المسلمين وجمهور العقلاء.
وقالت طائفة ـ كجهم وأتباعه : إنه لم يخلق شيئًا لشيء، ووافقه أبو الحسن الأشعرى ومن اتبعه من الفقهاء ـ أتباع الأئمة. وهم يثبتون أنه مريد، وينكرون أن تكون له حكمة يريدها.
وطائفة من المتفلسفة يثبتون عنايته وحكمته، وينكرون إرادته. وكلاهما تناقض. وقد بُسِطَ الكلام على فساد قول هؤلاء في غير هذا الموضع، وأن منتهاهم جحد الحقائق.
فإن هذا يقول : لو كان له حكمة يفعل لأجلها لكان يجب أن يريد الحكمة وينتفع بها، وهو منزه عن ذلك. وذاك يقول : لو كان له إرادة لكان يفعل لجر منفعة؛ فإن الإرادة لا تعقل إلا كذلك. وأرسطو وأتباعه يقولون : لو فعل شيئًا لكان الفعل لغرض، وهو منزه عن ذلك.
فيقال لهؤلاء : هذه الحوادث المشهودة، ألها محدث أم لا ؟ فإن قالوا : لا، فهو غاية المكابرة. وإذا جوزوا حدوث الحوادث بلا محدث فتجويزها بمحدث لا إرادة له أولى.
وإن قالوا : لها محدث، ثبت الفاعل. وإذا ثبت الخالق المحدث فإما أن يفعل بإرادة أو بغير إرادة. فإن قالوا : يفعل بغير إرادة كان ذلك أيضًا مكابرة. فإن كل حركة في العالم إنما صدرت عن إرادة.