وإن قالوا : الحكمة إما أن تراد لنفسها أو لحكمة، قيل : المرادات نوعان ما يراد لنفسه، وما يراد لغيره. وقد يكون الشيء غاية وحكمة بالنسبة إلى مخلوق وهو مخلوق لحكمة أخرى. فلابد أن ينتهي الأمر إلى حكمة يريدها الفاعل لذاتها.
والمعتزلة ـ ومن وافقهم، كابن عقيل وغيره ـ تثبت حكمة لا تعود إلى ذاته. وأما السلف؛ فإنهم يثبتون حكمة تعود إلىه، كما قد بين في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا ذكر قوله تعالى :﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [ الأعلى : ٢، ٣ ] والتسوية : جعل الشيئين سواء، كما قال :﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾ [ فاطر : ١٩ ]، وقوله تعالى :﴿ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء ﴾ [ آل عمران : ٦٤ ]، و ﴿ سَوَاء ﴾ وسط؛ لأنه معتدل بين الجوانب.
وذلك أنه لابد في الخلق والأمر من العدل. فلابد من التسوية بين المتماثلين، فإذا فضل أحدهما فسد المصنوع، كما في مصنوعات العباد إذا بنوا بنيانًا فلابد من التسوية بين الحيطان، إذ لو رفع حائط على / حائط رفعًا كثيرًا فسد. ولابد من التسوية بين جذوع السقف، فلو كان بعض الجذوع قصيرًا عن الغاية وبعضها فوق الغاية فسد. وكذلك إذا بنى صف فوق صف لابد من التسوية بين الصفوف، وكذلك الدرج المبنية. وكذلك إذا صنع لسقي الماء جداول ومساكب فلابد من العدل والتسوية فيها. وكذلك إذا صنعت ملابس للآدميين فلابد من أن تكون مقدرة على أبدانهم لا تزيد ولا تنقص. وكذلك ما يصنع من الطعام لابد أن تكون أخلاطه على وجه الاعتدال، والنار التي تطبخه كذلك. وكذلك السفن المصنوعة.
ولهذا قال الله لداود :﴿ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ [ سبأ : ١١ ]، أي : لا تدق المسمار فيقلق، ولا تغلظه فيفصم، واجعله بقدر.