وهذا الذي قالوه له معنى صحيح، وهو قول الفَرّاء وأمثاله، لكن لم يقله أحد من مفسرى السلف؛ ولهذا كان أحمد بن حنبل ينكر على الفراء وأمثاله ما ينكره، ويقول : كنت أحْسَب الفرَّاء رجلا صالحًا حتى رأيت كتابه في معاني القرآن.
وهذا المعنى الذي قالوه، مدلول عليه بآيات أُخر. وهو معلوم بالاضطرار من أمر الرسول، فإن الله بعثه مُبَلِّغا ومُذَكِّرا لجميع الثقلين؛ الإنس والجن. لكن ليس هو معنى هذه الآية.
بل معنى هذه يشبه قوله :﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ ق : ٤٥ ]، وقوله :﴿ إنَّمّا أّنتّ مٍنذٌرٍ مّن يّخًشّاهّا ﴾ [ النازعات : ٥٤ ]، وقوله :﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ ﴾ [ يس : ١١ ]، وقوله :﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ﴾ [ التكوير : ٢٧، ٢٨ ].
فالقرآن جاء بالعام والخاص. وهذا كقوله :﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [ البقرة : ٢ ]، ونحو ذلك.
وسبب ذلك أن التعليم والتذكير والإنذار والهدى ـ ونحو ذلك ـ له فاعل، وله قابل. فالمعلم المذكر يُعَلِّم غيره، ثم ذلك الغير قد يتعلم ويتذكر، وقد لا يتعلم ولا يتذكر. فإن تَعلَّم وتذكر فقد تم التعليم والتذكير، وإن لم يتعلم ولم يتذكر فقد وجد أحد طرفيه، وهو الفاعل، دون المحل القابل. فيقال في مثل هذا : عَلَّمّتُه فما تعلم، وَذَكَّرته فما تذكر، وأمرته فما أطاع.
وقد يقال :[ ما علمته وما ذكرته ] ؛ لأنه لم يحصل تامًا ولم يحصل مقصوده، فينفي لانتفاء كماله وتمامه. وانتفاء فائدته بالنسبة إلى المخاطب السامع وإن كانت الفائدة حاصلة للمتكلم القائل المخاطب.
فحيث خُصَّ بالتذكير والإنذار ـ ونحوه ـ المؤمنون؛ فهم مخصوصون بالتام النافع الذي سعدوا به. وحيث عمم؛ فالجميع مشتركون في الإنذار الذي قامت به الحجة على الخلق سواء قبلوا أو لم يقبلوا.