وفي البيوت خاصة يسكنون، كما قال :﴿ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ﴾ [ النحل : ٨٠ ] فلما ذكر البيوت المسكونة امتن بكونه جعلها سكنًا يسكنون فيها من تعب الحركات. وذكر أنه جعل لهم بيوتًا أخرى يحملونها معهم ويَستَخفُّونها يوم ظعنهم ويوم إقامتهم، فذكر البيوت الثقيلة التي لا تحمل والخفيفة التي تحمل.
فتبين أن ما مثلوا به حجة عليهم.
فقوله :﴿ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ [ الأعلى : ٩ ]، ـ كما قال مفسرو السلف والجمهور ـ على بابها، قال الحسن البصرى : تذكرة للمؤمن، وحجة على الكافر.
وعلى هذا فقوله تعالى :﴿ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾، لا يمنع كون الكافر يبلغ القرآن لوجوه :
أحدها : أنه لم يخص قومًا دون قوم، لكن قال :﴿ فَذَكِّرْ ﴾، وهذا مطلق بتذكير كل أحد. وقوله :﴿ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ لم يقل :[ إن نفعت كل أحد ] بل أطلق النفع. فقد أمر بالتذكير إن كان ينفع.
والتذكير المطلق العام ينفع. فإن من الناس من يتذكر فينتفع به، والآخر تقوم عليه الحجة ويستحق العذاب على ذلك، فيكون عبرة لغيره، فيحصل بتذكيره نفع أيضًا؛ ولأنه بتذكيره تقوم عليه الحجة، فتجوز عقوبته بعد هذا بالجهاد وغيره، فتحصل بالذكرى منفعة.
فكل تذكير ذكر به النبى ﷺ للمشركين حصل به نفع في الجملة، وإن كان النفع للمؤمنين الذين قبلوه واعتبروا به وجاهدوا المشركين الذين قامت عليهم الحجة.
فإن قيل : فعلى هذا كل تذكير قد حصل به نفع، فأي فائدة في التقييد ؟
قيل : بل منه ما لم ينفع أصلًا، وهو ما لم يُؤمر به. وذلك كمن أخبر الله أنه لا يؤمن، كأبى لهب، فإنه بعد أن أنزل الله قوله :﴿ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾ [ المسد : ٣ ]، فإنه لا يخص بتذكير بل يعرض عنه.