وكذلك كل من لم يصغ إليه ولم يستمع لقوله، فإنه يعرض عنه، كما قال :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ﴾ [ الذاريات : ٥٤ ]، ثم قال :﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الذاريات : ٥٥ ]، فهو إذا بلغ قومًا الرسالة فقامت الحجة عليهم، ثم امتنعوا من سماع كلامه أعرض عنهم. فإن الذكرى حينئذ لا تنفع أحدًا.
وكذلك من أظهر أن الحجة قامت عليه وأنه لا يهتدى فإنه لا يكرر التبليغ عليه.
الوجه الثاني : أن الأمر بالتذكير أمر بالتذكير التام النافع، كما هو أمر بالتذكير المشترك.
وهذا التام النافع يخص به المؤمنين المنتفعين. فهم إذا آمنوا ذكرهم بما أنزل، وكلما أنزل شىءٌ من القرآن ذكرهم به، ويذكرهم بمعانيه، ويذكرهم بما نزل قبل ذلك.
بخلاف الذين قال فيهم :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ ﴾ [ المدثر : ٤٩ ـ ٥١ ]. فإن هؤلاء لا يذكرهم كما يذكر المؤمنين إذا كانت الحجة قد قامت عليهم وهم معرضون عن التذكرة لا يسمعون.
ولهذا قال :﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهي ﴾ [ عبس : ١ ـ ١٠ ]، فأمره أن يُقبل على من جاءه يطلب أن يتزكى وأن يتذكر. وقال :﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ﴾ إلى قوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ [ الأعلى : ١٠ ـ ١٤ ]، فذكر التذكر والتزكى، كما ذكرهما هناك. وأمره أن يقبل على من أقبل عليه دون من أعرض عنه، فإن هذا ينتفع بالذكرى دون ذاك.


الصفحة التالية
Icon