فيكون مأمورًا أن يذكر المنتفعين بالذكرى تذكيرًا يخصهم به غير التبليغ العام الذي تقوم به الحجة، كما قال :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
وقال :﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ]، وفي الصحيحين عن ابن عباس : قال : كان رسول الله ﷺ إذا قرأ القرآن سمعه المشركون، فسبُّوا القرآن ومن أنزل عليه ومن جاء به، فقال الله له : ولا تجهر به فيسمعه المشركون، ولا تخافت / به عن أصحابك. فنهي عن أن يسمعهم إسماعًا يكون ضرره أعظم من نفعه.
وهكذا كل ما يأمر الله به لابد أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته. والمصلحة هي المنفعة، والمفسدة هي المضرة. فهو إنما يؤمر بالتذكير إذا كانت المصلحة راجحة، وهو أن تحصل به منفعة راجحة على المضرة. وهذا يدل على الوجه الأول والثاني. فحيث كان الضرر راجحًا فهو منهي عما يجلب ضررًا راجحًا.
والنفع أعم في قبول جميعهم، فقبول بعضهم نفع، وقيام الحجة على من لم يقبل نفع، وظهور كلامه حتى يبلغ البعيد نفع، وبقاؤه عند من سمعه حتى بلغه إلى من لم يسمعه نفع. فهو ﷺ ما ذكَّرَ قط إلا ذكرى نافعة، لم يذكر ذكرى قط يكون ضررها راجحًا.
وهذا مذهب جمهور المسلمين من السلف والخلف؛ أن ما أمر الله به لابد أن تكون مصلحته راجحة ومنفعته راجحة. وأما ما كانت مضرته راجحة، فإن الله لا يأمر به.
وأما جَهْم ـ ومن وافقه من الجبرية ـ فيقولون : إن الله قد يأمر بما ليس فيه منفعة ولا مصلحة البتة، بل يكون ضررًا محضًا إذا فعله / المأمور به، وقد وافقهم على ذلك طائفة من متأخرى أتباع الأئمة ممن سلك مسلك المتكلمين ـ أبى الحسن الأشعري وغيره ـ في مسائل القَدَر، فنصر مذهب جهم والجبرية.


الصفحة التالية
Icon