الوجه الثالث : أن قوله :﴿ الذِّكْرَى ﴾ يتناول التذكر والتذكير. فإنه قال :﴿ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾ [ الأعلى : ٩ ]. فلابد أن يتناول ذلك تذكيره.
ثم قال :﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴾ [ الأعلى : ١٠، ١١ ]. والذي يتجنبه الأشقى هو الذي فعله من يخشى، وهو التذكر. فضمير الذكرى هنا يتناول التذكر، وإلا فمجرد التذكير الذي قامت به الحجة لم يتجنبه أحد.
لكن قد يراد بتجنبها أنه لم يستمع إليها ولم يصغ، كما قال :﴿ لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ]. والحجة قامت بوجود الرسول المبلغ وتمكنهم من الاستماع والتدبر، لا بنفس الاستماع. ففي الكفار من تجنب سماع القرآن واختار غيره، كما يتجنب كثير من المسلمين سماع أقوال أهل الكتاب وغيرهم، وإنما ينتفعون إذا ذكروا فتذكروا، كما قال :﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ﴾.
فلما قال :﴿ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾، فقد يراد بالذكرى نفس / تذكيره ـ تذكر أو لم يتذكر ـ وتذكيره نافع لا محالة كما تقدم، وهذا يناسب الوجه الأول.
وقد ذكر بعضهم أن هذا يراد به توبيخ من لم يتذكر من قريش، قال ابن عطية : اختلف الناس في معنى قوله :﴿ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾ : فقال الفَرَّاء، والنحَّاس، والزَّهْرَاوى : معناه : وإن لم تنفع. فاقتصر على الاسم الواحد لدلالته على الثاني.
قال : وقال بعض الحُذَّاق : قوله ﴿ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾، اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش. أي : إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة. وهذا كنحو قول الشاعر :
لقد أسمعت لو ناديت حيا ** ولكن لا حياة لمن تنادى.
وهذا كله كما تقول لرجل :[ قل لفلان واعذله إن سمعك ]، إنما هو توبيخ للمشار إليه.