سُورَة البَلد
قَال شَيْخ الإسْلام ـ رَحمه الله :
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [ البلد : ٨ - ١٠ ]، الهداية محلها القلب، وهذه الأعضاء الثلاثة التي هى دائمة الحركة والكسب، إما للإنسان، وإما عليه، بخلاف ما يتحرك من داخل فإنه لا يتعلق به ثواب ولا عقاب، وبخلاف بقية الأعضاء الظاهرة، فإن السكون أغلب، وحركتها قليلة بالنسبة إلى هذه، وهذه الثلاثة التي يروى عن عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ أنه قال : من كان صمته فكرًا، ونطقه ذكرًا، ونظره عبرة. وفي حديث عند ابن أبي حاتم في صفة النبي ﷺ أنه كان كثير الصمت، دائم الفكر، متواصل الأحزان، فالصمت والفكر للسان والقلب، وأما الحزن فليس المراد به الحزن الذي هو الألم على فوت مطلوب أو حصول مكروه فإن ذلك منهي عنه، ولم يكن من حاله، وإنما أراد به الاهتمام والتيقظ لما يستقبله من الأمور، وهذا مشترك بين القلب والعين.
وفيه أيضًا في الصحيحين حديث ابن عباس أنه كان إذا قام من الليل يصلى ينظر إلى السماء، ويقرأ الآيات العشر من أواخر سورة آل عمران، فيجمع بين الذكر والنظر والفكر، فالنظر، أى : نظر القلب ونظر العين، والذكر ـ أيضًا ـ لابد مع ذكر اللسان من ذكر القلب.
ولما كان النظر مبدأ، والذكر منتهى؛ لأن النظر يتقدم الإدراك، والعلم والذكر يتأخر عن الإدراك والعلم؛ ولهذا كان المتكلمة في النظر المقتضى للعلم، وكان المتصوفة في الذكر المقرر للعلم قدم آلة النظر على آلة الذكر، وختم بهداية الملك الجامع الذي هو الناظر الذاكر.
وذكر ـ سبحانه ـ اللسان والشفتين؛ لأنهما العضوان الناطقان. فأما الهواء والحلق والنطع واللهوات والأسنان فمتصلة حركة بعضها مرتبطة بحركة البعض بمنزلة غيرها من أجزاء الحنك، فأما اللسان والشفتان فمنفصلة. ثم الشفتان لما كانا النهاية حملا الحروف الجوامع : الباء، والفاء، والميم، والواو.