الوجه الثالث : أنه قد كان ألهم الفجور والتقوى، وهو خالق فعل العبد. فلابد أن يعلم ما خلقه قبل أن يخلقه، كما قال :﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ﴾ [ الملك : ١٤ ]، لأن الفاعل المختار يريد ما يفعله، والإرادة مستلزمة لتصور المراد. وذلك هو العلم بالمراد المفعول.
وإذا كان خلقه للشيء مستلزمًا لعلمه به، فذلك أصل القدر السابق وما علمه الله ـ سبحانه ـ بقوله وبكتبه فلا نزاع فيه. وهذا بَيِّن في جميع الأشياء في هذا وغيره.
فإنه ـ سبحانه ـ إذا ألهم الفجور والتقوى فالملهم إن لم يميز بين الفجور والتقوى، ويعلم أن هذا الفعل الذي يريد أن يفعله هذا فجور، والذي يريد أن يفعله هذا تقوى، لم يصح منه إلهام الفجور والتقوى.
فظهر بهذا حسن ما ذكره النبي ﷺ من تصديق الآية لما أخبر به النبي ﷺ من القدر السابق.
وقوله ـ سبحانه :﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [ الشمس : ٨ ]، كما يدل على القدر يدل على الشرع. فإنه لو قال :[ فألهمها أفعالها ]، كما يقول الناس :/ [ خالق أفعال العباد ]، لم يكن في ذلك تمييز بين الخير والشر، والمحبوب والمكروه، والمأمور به والمنهي عنه، بل كان فيه حجة للمشركين ـ من المباحية والجبرية ـ الذين يدفعون الأمر والنهي، والحسن والقبح؛ فإنه خلق أفعال العباد. فلما قال :﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [ الشمس : ٨ ]، كان الكلام تفريقًا بين الحسن المأمور به والقبيح المنهي عنه، وأن الأفعال منقسمة إلى حسن وسيئ، مع كونه ـ تعالى ـ خالق الصنفين.
وهذه طريقة القرآن ـ في غير موضع ـ يذكر المؤمن والكافر وأفعالهما الحسنة والسيئة، ووعده ووعيده، ويذكر أنه خالق الصنفين، كقوله :﴿ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء ﴾ [ فاطر : ٨ ]، ونحو ذلك.
وهذا الأصل ضلت فيه الجبرية والقدرية :