فإن القدرية المجوسية قالوا : إن الأفعال تنقسم إلى حسن وقبيح لصفات قائمة بها، والعبد هو المحدث لها بدون قدرة الله وبدون خلقه.
فقالت الجبرية : بل العبد مجبور على فعله، والجبر حق يوجب وجود أفعاله عند وجود الأسباب التي يخلقها الله، وامتناع وجودها عند عدم شيء من الأسباب. وإذا كان مجبورًا يمتنع أن يكون الفعل حسنًا أو قبيحًا لمعنى يقوم به.
وهذه طريقة أبي عبد الله الرازي ونحوه من الجبرية النافين لانقسام الفعل في نفسه إلى حسن وقبيح. والأولى طريقة أبي الحسين البَصْرى ونحوه من القدرية القائلين بأن فعل العبد لم يحدثه إلا هو، والعلم بذلك ضرورى أو نظرى، وأن الفعل ينقسم في نفسه إلى حسن وقبيح، والعلم بذلك ضرورى.
وأبو الحسين هو إمام المتأخرين من المعتزلة، وله من العقل والفضل ما ليس لأكثر نظرائه، لكن هو قليل المعرفة بالسنن، ومعانى القرآن، وطريقة السلف.
وهو وأبو عبد الله الرازي في هذا الباب في طرفي نقيض، ومع كل منهما من الحق ما ليس مع الآخر. فأبو الحسين يدعى أن العلم بأن العبد يحدث فعله ضرورى، والرازي يدعى أن العلم بأن افتقار الفعل المحْدَث الممكن إلى مرجح يجب وجوده عنده ويمتنع عند عدمه ضرورى كذلك، بل كلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضرورى.
ثم يعتقد كل فريق أن هذا العلم الضرورى يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة، وليس الأمر كذلك. بل كلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضرورى ومصيب في ذلك، وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الحق، فإنه لا منافاة بين كون العبد مُحْدِثًا لفعله، وكون / هذا الإحْدَاث ممكن الوجود ـ بمشيئة الله تعالى.