وإبليس هو أول من عادى الله، وطغى في خَلْقِه وأمره، وعارض النص بالقياس. ولهذا يقول بعض السلف : أول من قاس إبليس. فإن الله أمره بالسجود لآدم، فاعترض على هذا الأمر بأنى خير منه، وامتنع من السجود. فهو أول من عادى الله، وهو الجاهل الظالم؛ الجاهل بما في أمر الله من الحكمة، الظالم باستكباره الذي جمع فيه بين بطر الحق وغمط الناس.
ثم قوله لربه :[ فبما أغويتني لأفعلن ]، جعل فعل الله ـ الذي هو إغواؤه له ـ حجة له، وداعيًا إلى أن يغوى ابن آدم. وهذا طَعْنٌ منه في فعل الله وأمره، وَزْعم منه أنه قبيح، فأنا أفعل القبيح ـ أيضًا. فقاس نفسه على ربه، ومَثَّلَ نفسه بربه.
ولهذا كان مضاهيًا للربوبية، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر، عن النبي ﷺ :( إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ثم يبعث سراياه، فأعظمهم فتنة أقربهم إليه منزلة. فيجىء الرجل فيقول : مازلت به حتى فعل كذا. ثم يجيء الآخر فيقول : مازلت به حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيلتزمه ويدنيه منه، ويقول : أنت أنت ).
والقدرية قصدوا تنزيه الله عن السفه، وأحسنوا في هذا القصد. فإنه ـ سبحانه ـ مُقَدَّسٌ عما يقول الظالمون ـ من إبليس وجنوده ـ علوًا كبيرًا، حَكَمٌ، عَدْلٌ. لكن ضاق ذرعهم، وحصل عندهم نوع جهل اعتقدوا معه أن هذا التنزيه لا يتم إلا بأن يسلبوه قدرته على أفعال العباد، وخلقه لها، وشمول إرادته لكل شيء. فناظروا إبليس وحزبه في شيء، واستحوذ عليهم إبليس من ناحية أخرى.
وهذا من أعظم آفات الجدال في الدين بغير علم أو بغير الحق وهو الكلام الذي ذمه السلف، فإن صاحبه يرد باطلًا بباطل وبدعة ببدعة.


الصفحة التالية