وكثير من الناس يكون هذا في فطرته وهو ينكر تحسين العقل وتقبيحه إذا صنف في أصول الدين على طريقة النفاة الجبرية ـ أتباع جهم. وهذا موجود في عامة ما يقوله المبطلون ـ يقولون بفطرتهم ما يناقض ما يقولونه في اعتقادهم البِدْعِى.
وقد ذكر أبو عبد الله ـ ابن الجد الأعلى ـ أنه سمع أبا الفرج ابن الجوزي ينشد في مجلس وعظه البيتين المعروفين :
هب البعثُ لم تأتنا رُسْله ** وجاحمة النار لم تُضرم
أليس من الواجب المستَحَقِ ** حياءُ العباد من المنْعِم ؟
فقد صرح في هذا بأنه من الواجب المستحق حياء الخلق من الخالق المنعم.
وهذا تصريح بأن شكره واجب مستحق ولو لم يكن وعيد، ولا / رسالة أخبرت بجزاء. وهو يبين ثبوت الوجوب والاستحقاق وإن قدر أنه لا عذاب.
وهذا فيه نزاع قد ذكرناه في غير هذا الموضع، وبينا أن هذا هو الصحيح. ونتيجة فعل المنهي انخفاض المنزلة وسلب كثير من النعم التي كان فيها وإن كان لا يعاقب بالضرر.
ويبين أن الوجوب والاستحقاق يُعْلم بالبديهة. فتارك الواجد وفاعل القبيح وإن لم يُعَذَّب بالآلام كالنار فيسلب من النعم وأسبابه ما يكون جزاءه. وهذا جزاء من لم يشكر النعمة بل كفرها ـ أن يسلبها. فالشكر قيد النعم، وهو موجب للمزيد. والكفر بعد قيام الحجة موجب للعذاب، وقبل ذلك يُنْقص النعمة ولا يزيد.
مع أنه لابد من إرسال رسول يستحق معه النعيم أو العذاب، فإنه ما ثم دار إلا الجنة أو النار. قال تعالى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴾ [ التين : ٤ - ٦ ]، وهذا مبسوط في مواضع.