والمقصود ـ هنا ـ أن هؤلاء الذين قالوا : معرفة الرب لا تحصل إلا بالنظر، ثم قالوا : لا تحصل إلا بهذا النظر، هم من أهل الكلام ـ الجهمية القدرية ومن تبعهم. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور العلماء من المتكلمين وغيرهم على خطأ هؤلاء في إيجابهم هذا النظر المعين، وفي دعواهم أن المعرفة موقوفة عليه. إذ قد علم بالاضطرار من دين الرسول ﷺ أنه لم يوجب هذا على الأمة ولا أمرهم به، بل ولا سلكه هو ولا أحد من سلف الأمة في تحصيل هذه المعرفة.
ثم هذا النظر ـ هذا الدليل ـ للناس فيه ثلاثة أقوال :
قيل : إنه واجب، وإن المعرفة موقوفة عليه، كما يقوله هؤلاء.
وقيل : بل يمكن حصول المعرفة بدونه، لكنه طريق آخر إلى المعرفة. وهذا يقوله كثير من هؤلاء ممن يقول بصحة هذه الطريقة لكن لا يوجبها؛ كالخطأبي والقاضى أبي يعلى، وأبي جعفر السمنانى ـ قاضى الموصل شيخ أبي الوليد الباجي ـ وكان يقول : إيجاب النظر بقية بقيت على الشيخ أبي الحسن الأشعري من الاعتزال. وهؤلاء الذين لا يوجبون هذا النظر.
ومنهم من لا يوجب النظر مطلقا كالسِّمْناني، وابن حزم وغيرهما.
ومنهم من يوجبه في الجملة، كالخطَّأبي، وأبي الفَرَج المقْدِسي.
والقاضى أبو يعلى يقول بهذا تارة، وبهذا تارة، بل ويقول تارة بإيجاب النظر المعين، كما يقوله أبو المعالى وغيره.
ثم من الموجبين للنظر من يقول : هو أول الواجبات، ومنهم من يقول : بل المعرفة الواجبة به، وهو نزاع لفظى. كما أن بعضهم قال : أول الواجبات القصد إلى النظر، كعبارة أبي المعالى. ومن هؤلاء من قال : بل الشك المتقدم كما قاله أبو هاشم.
وقد بسط الكلام على هذه الأقوال وغيرها في موضع آخر، / وبين أنها كلها غلط مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة، بل وباطلة في العقل ـ أيضًا.


الصفحة التالية
Icon