فإن فرعون إنما استفهم استفهام إنكار وجَحْد، لم يسأل عن ماهية رب أقر بثبوته، بل كان منكرًا له جاحدًا؛ ولهذا قال في تمام الكلام :﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ]، وقال :﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾. فاستفهامه كان إنكارًا وجحدًا، يقول : ليس للعالمين رب يرسلك، فمن هو هذا ؟ إنكارًا له.
فبين موسى أنه معروف عنده وعند الحاضرين، وأن آياته ظاهرة بينة لا يمكن معها جحده. وأنكم إنما تجحدون بألسنتكم ما تعرفونه بقلوبكم، كما قال موسى في موضع آخر لفرعون :﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ ﴾ [ الإسراء : ١٠٢ ]، وقال الله تعالى :﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [ النمل : ١٤ ].
ولم يقل فرعون : ومن رب العالمين ؟ فإن [ من ] سؤال عن عينه يسأل بها من عرف جنس المسؤول عنه أنه من أهل العلم وقد شك في عينه، كما يقال لرسول عُرف إنه جاء من عند إنسان : من أرسلك ؟
وأما [ ما ] فهي سؤال عن الوصف. يقول : أى شيء هو هذا ؟ وما هو هذا الذي سميته رب العالمين ؟ ـ قال ذلك منكرًا له جاحدًا.
فلما سأل ـ جحدا ـ أجابه موسى بأنه أعرف من أن ينكر، وأظهر من أن يُشك فيه ويرتاب. فقال :﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ ﴾.
ولم يقل :[ موقنين بكذا وكذا ]، بل أطلق، فأى يقين كان لكم بشيء من الأشياء، فأول اليقين اليقين بهذا الرب، كما قالت الرسل لقومهم :﴿ أَفِي اللّهِ شَكٌّ ﴾ [ إبراهيم : ١٠ ]


الصفحة التالية
Icon