وإن قلتم : لا يقين لنا بشيء من الأشياء، بل سلبنا كل علم، فهذه دعوى السفسطة العامة، ومدعيها كاذب ظاهر الكذب. فإن العلوم من لوازم كل إنسان، فكل إنسان عاقل لابد له من علم؛ ولهذا / قيل في حد [ العقل ] : إنه علوم ضرورية، وهي التي لا يخلو منها عاقل.
فلما قال فرعون :﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [ الشعراء : ٢٧ ]، وهذا من افتراء المكذبين على الرسول ـ لما خرجوا عن عاداتهم التي هي محمودة عندهم نسبوهم إلى الجنون. ولما كانوا مظهرين للجحد بالخالق، أو للاسترابة والشك فيه. هذه حال عامتهم ودينهم، وهذا عندهم دين حسن، وإنما إلههم الذي يطيعونه فرعون، قال :﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾
فبين له موسى أنكم الذين سلبتم العقل النافع، وأنتم أحق بهذا الوصف فقال :﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾
فإن العقل مستلزم لعلوم ضرورية يقينية، وأعظمها في الفطرة الإقرار بالخالق. فلما ذكر أولًا أن من أيقن بشيء فهو موقن به، واليقين بشيء هو من لوازم العقل، بين ـ ثانيًا ـ أن الإقرار به من لوازم العقل.
ولكن المحمود هو العلم النافع الذي يعمل به صاحبه، فإن لم يعمل به صاحبه قيل : إنه ليس له عقل. ويقال ـ أيضًا ـ لمن لم يتبع ما أيقن به :/ إنه ليس له يقين. فإن اليقين ـ أيضًا ـ يراد به العلم المستقر في القلب ويراد به العمل بهذا العلم. فلا يطلق :[ الموقن ] إلا على من استقر في قلبه العلم والعمل.
وقوم فرعون لم يكن عندهم اتباع لما عرفوه، فلم يكن لهم عقل ولا يقين. وكلام موسى يقتضي الأمرين : إن كان لك يقين فقد عرفته، وإن كان لك عقل فقد عرفته. وإن ادعيت أنه لا يقين لك ولا عقل لك، فكذلك قومك، فهذا إقرار منكم بسلبكم خاصية الإنسان.