ومن يكون هكذا، لا يصلح له ما أنتم عليه من دعوى الإلهية. مع أن هذا باطل منكم، فإنكم موقنون به، كما قال تعالى :﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [ النمل : ١٤ ].
ولكم عقل تعرفونه به، ولكن هواكم يصدكم عن اتباع موجب العقل، وهو إرادة العلو في الأرض والفساد. فأنتم لا عقل لكم بهذا الاعتبار، كما قال أصحاب النار :﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ الملك : ١٠ ]، وقال تعالى عن الكفار :﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [ الفرقان : ٤٤ ].
قال تعالى عن فرعون وقومه :﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [ الزخرف : ٥٤ ] والخفيف : هو السفيه الذي لا يعمل بعلمه، بل يتبع هواه. وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود ـ هنا ـ أنه ليس في الرسل من قال ـ أول ما دعا قومه ـ : إنكم مأمورون بطلب معرفة الخالق، فانظروا واستدلوا حتى تعرفوه. فلم يكلفوا ـ أولا ـ بنفس المعرفة، ولا بالأدلة الموصلة إلى المعرفة، إذ كانت قلوبهم تعرفه وتقر به، وكل مولود يولد على الفطرة، لكن عرض للفطرة ما غيَّرها، والإنسان إذا ذكر ذكر ما في فطرته.
ولهذا قال الله في خطابه لموسى :﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [ طه : ٤٤ ]، ما في فطرته من العلم الذي به يعرف ربه، ويعرف إنعامه عليه، وإحسانه إليه، وافتقاره إليه، فذلك يدعوه إلى الإيمان، ﴿ أَوْ يَخْشَى ﴾ ما ينذره به من العذاب، فذلك ـ أيضا ـ يدعوه إلى الإيمان.