فإن حرف الاستفهام إذا دخل على حرف النفي كان تقريرًا، كقوله :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [ الشرح : ١ ]، ﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ ﴾ [ البلد : ٨ ]، ﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ [ التوبة : ٧٠ ]، ومثله كثير. بخلاف استفهام فرعون، فإنه استفهام إنكار، لا تقرير؛ إذ ليس هناك إلا أداة الاستفهام فقط، ودل سياق الكلام على أنه إنكار.
فإن قيل : إذا كانت معرفته، والإقرار به ثابتًا في كل فطرة فكيف ينكر ذلك كثير من النظار ـ نظار المسلمين وغيرهم ـ وهم يَدَّعون أنهم الذين يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الإلهية ؟.
فيقال أولا : أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه المعرفة هم أهل الكلام الذي اتفق السلف على ذمه ـ من الجهمية والقدرية. وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم. ولكن انتشر كثير من أصولهم في المتأخرين الذين يوافقون السلف على كثير مما خالفهم فيه سلفهم الجهمية. فصار بعض الناس يظن أن هذا قول صدر في الأصل عن علماء المسلمين، وليس كذلك، إنما صدر أولا عمن ذمه أئمة الدين وعلماء المسلمين.
الثاني : أن الإنسان قد يقوم بنفسه من العلوم والإرادات وغيرها من الصفات ما لا يعلم أنه قائم بنفسه، فإن قيام الصفة بالنفس غير / شعور صاحبها بأنها قامت به. فوجود الشيء في الإنسان وغيره غير علم الإنسان به.
وهذا كصفات بدنه، فإن منها ما لا يراه كوجهه وقفاه. ومنها ما يراه إذا تعمد النظر إليه كبطنه وفخذه وعضديه. وقد يكون بهما آثار من خيلان وغير خيلان، وغير ذلك من الأحوال، وهو لم يره ولم يعرفه، لكن لو تعمد رؤيته لرآه. ومن الناس من لا يستطيع رؤية ذلك لعارض عرض لبصره من العشى أو العمى، أو غير ذلك.
كذلك صفات نفسه قد يعرف بعضها، وبعضها لا يعرفه. لكن لو تعمد تأمل حال نفسه لعرفه. ومنها ما لا يعرفه ولو تأمل لفساد بصيرته وما عرض لها.