والذي يبين ذلك : أن الأفعال الاختيارية لا تتصور إلا بإرادة تقوم بنفس الإنسان. وكل من فعل فعلا اختياريًا ـ وهو يعرفه ـ فلابد أن يريده، كالذي يأكل ويشرب ويلبس وهو يعرف أنه يفعل ذلك، فلابد أن يريده. فالفعل الاختياري يمتنع أن يكون بغير إرادة. وإذا تصور الفعل الذي يفعله وقد فعله لزم أن يكون مريدًا له وقد تصوره. وإذا كان مريدًا له وقد تصوره امتنع ألا يريد ما تصوره وفعله.
فالإنسان، إذا قام إلى صلاة يعلم أنها الظُّهر، فمن الممتنع أن يصلى الظهر ـ وهو يعلم هذا لم ينسه ـ ولا يريد صلاة الظهر.
وكذلك الصيام إذا تصور أن غدًا من رمضان ـ وهو مريد لصوم رمضان ـ امتنع ألا ينوي صومه.
وكذلك إذا أهل بالحج ـ وهو يعلم أنه مهل به ـ امتنع ألا يكون مريدًا للحج.
وكذلك الوضوء إذا علم أنه يتوضأ للصلاة ـ وهو يتوضأ ـ امتنع ألا يكون مريدًا للوضوء. ومثل هذا كثير؛ نجد خلقًا كثيرًا من العلماء ـ دع العامية ـ يستدعون النية بألفاظ يقولونها ويتكلفون ألفاظًا، ويشكون في وجودها مرة بعد مرة، ويخرجون إلى ضرب من الوسوسة التي يشبه أصحابها المجانين.
والنية : هي الإرادة، وهي القصد، وهي موجودة في نفوسهم لوجودها في نفس كل من يصلى في ذلك المسجد والجامع، ومن توضأ في تلك المطهرة. أولئك يعلمون هذا من نفوسهم ولم يحصل لهم وسواس، وهؤلاء ظنوا أن النية لم تكن في قلوبهم ـ يطلبون حصولها من قلوبهم.
وهم يعلمون أن التلفظ بها ليس بواجب، وإنما الفرض وجود الإرادة في القلب ـ وهي موجودة ـ ومع هذا يعتقدون أنها ليست موجودة. وإذا قيل لأحدهم :[ النية حاصلة في قلبك ] لم يقبل لما قام به من الاعتقاد الفاسد المناقض لفطرته.