وهذا عكس ما يقال :[ من عرف نفسه عرف ربه ]. وبعض الناس يروى هذا عن النبى صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا يعرف له إسناد.
ولكن يروى في بعض الكتب المتقدمة ـ إن صح ـ ( يا إنسان، اعرف نفسك، تعرف ربك ). وهذا الكلام سواء كان معناه صحيحا أو فاسدًا لا يمكن الاحتجاج بلفظه، فإنه لم يثبت عن قائل معصوم. لكن إن فسر بمعنى صحيح عرف صحة ذلك المعنى، سواء دل عليه هذا اللفظ أو لم يدل.
وإنما القول الثابت ما في القرآن، وهو قوله :﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ﴾. فهو يدل على أن نسيان الرب موجب لنسيان النفس.
وحينئذ، فمن ذكر الله ولم ينسه، يكون ذاكرًا لنفسه، فإنه لو / كان ناسيا لها ـ سواء ذكر الله أو نسيه ـ لم يكن نسيانها مسببا عن نسيان الرب. فلما دلت الآية على أن نسيان الإنسان نفسه مسبب عن نسيانه لربه، دل على أن الذاكر لربه لا يحصل له هذا النسيان لنفسه.
والذكر يتضمن ذكر ما قد علمه، فمن ذكر ما يعلمه من ربه ذكر ما يعلمه من نفسه. وهو قد ولد على الفطرة التي تقتضى أنه يعرف ربه ويحبه ويوحده. فإذا لم ينس ربه الذي عرفه، بل ذكره على الوجه الذي يقتضي محبته ومعرفته وتوحيده، ذكر نفسه، فأبصر ما كان فيها قبل من معرفة الله ومحبته وتوحيده.
وأهل البدع ـ الجهمية ونحوهم ـ لما أعرضوا عن ذكر الله ـ الذكر المشروع الذي كان في الفطرة وجاءت به الشرعة، الذي يتضمن معرفته ومحبته وتوحيده ـ نسوا الله من هذا الوجه. فأنساهم أنفسهم من هذا الوجه، فنسوا ما كان في أنفسهم من العلم الفطري، والمحبة الفطرية، والتوحيد الفطري.


الصفحة التالية
Icon