وإذا كان الخلق للحادث لابد له من مؤثر تام أوجب حدوثه لزم أنه لم يزل متصفًا بما يقوم به من الأمور الاختيارية، لكن إن يثبت أنه كان قبل هذا المخلوق مخلوق آخر ثبت أنه متصف بخلق بعد خلق.
وكذلك الكلام، هو متكلم بمشيئته. ويمتنع ألا يكون متكلمًا ثم يصير متكلمًا لوجهين :
أحدهما : أنه سلب لكماله، والكلام صفة كمال.
والثاني : أنه يمتنع حدوث ذلك. فإن من لا يكون متكلمًا يمتنع / أن يجعل نفسه متكلمًا، ومن لا يكون عالمًا يمتنع أن يجعل نفسه عالمًا، ومن لا يكون حيًا يمتنع أن يجعل نفسه حيًا. فهذه الصفات من لوازم ذاته.
وكذلك من لا يكون خالقًا يمتنع أن يجعل نفسه خالقًا. فإنه إذا لم يكن قادرًا على أن يخلق فجعله نفسه خالقة أعظم؛ فيكون هذا ممتنعًا بطريق الأولى، فإن جعل نفسه خالقة يستلزم وجود المخلوق.
ولهذا لما كان قادرًا على جعل الإنسان فاعلًا، كان هو الخالق لما يفعله الإنسان. فلو جعل نفسه خالقة كان هو الخالق لما جعلها تخلقه.
فإذا فرض أنه يمتنع أن يكون خالقًا في الأزل امتنع أن يجعل نفسه خالقة بوجه من الوجوه. ويلزم من القول بامتناع الفعل عليه في الأزل امتناعه دائمًا. وقد دلت الآية على أنه خلق. فعلم أنه ما زال قادرًا على الخلْق، ما زال يمكنه أن يَخْلُقَ، وما زال الخلْق ممكنًا مقدورًا. وهذا يبطل أصل الجهمية.
بل وإذا كان قادرًا عليه فالموجب له ليس شيئًا بائنًا من خارج، بل هو من نفسه. فيمتنع أن يجعل نفسه مريدة بعد أن لم تكن، فيلزم أنه ما زال مريدًا قادرًا. وإذا حصلت القدرة والإرادة، وجب وجود المقدور.
وأهل الكلام الذين ينازعون في هذا يقولون : لم يزل قادرًا على ما سيكون.


الصفحة التالية
Icon