فيقال لهم : القدرة لا تكون إلا مع إمكان المقدور، إذا كانت القدرة دائمة، فهل كان يمكنه أن يفعل المقدور دائمًا ؟ وهم يقولون : لا، بل الإمكان ـ إمكان الفعل ـ حادث. وهذا يناقض إثبات القدرة، وإن قالوا : بل الإمكان حاصل، تبين أنه لم يزل الفعل ممكنا فثبت إمكان وجود ما لا يتناهي من مقدور الرب.
وحينئذ، فإذا كان لم يزل قادرًا، والفعل ممكنًا، وهذا الممكن قد وجد، فما لا يزال، فالموجب لوجود جنس المقدور، ـ كالإرادة ـ مثلا، إما أن يكون وجودها في الأزل ممتنعًا، فيلزم امتناع الفعل، وقد بينا أنه ممكن.
وأيضًا، إذا كان وجودها ممتنعًا، لم يزل ممتنعًا؛ لأنه لا شيء هناك يجعلها ممكنة، فضلًا عن أن تكون موجودة. ومعلوم أن وجودها بعد أن لم تكن، لابد له من موجب. وإذا كان وجودها في الأزل ممكنًا، فوجود هذا الممكن لا يتوقف على غير ذاته، وذاته كافية في حصوله. فيلزم أنه لم يزل مريدًا.
وهكذا في جميع صفات الكمال متي ثبت إمكانها في الأزل، لزم / وجودها في الأزل. فإنها لو لم توجد لكانت ممتنعة، إذ ليس في الأزل شيء سوي نفسه يوجب وجودها. فإذا كانت ممكنة والمقتضي التام لها نفسه لزم وجوبها في الأزل.
وهذا مما يدل على أنه لم يزل حيًا، عليمًا، قديرًا، مريدًا، متكلمًا فاعلًا؛ إذ لا مقتضي لهذه الأشياء إلا ذاته، وذاته وحدها كافية في ذلك. فيلزم قدم النوع، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، لكن أفراد النوع تحصل شيئًا بعد شيء بحسب الإمكان والحكمة.
ولهذا قد بين في مواضع أنه ليس في نفس الأمر ممكن يستوي طرفًا وجوده وعدمه، بل إما أن يحصل المقتضي لوجوده فيجب، أو لا يحصل فيمتنع. فما اتصف به الرب، فاتصافه به واجب. وما لم يتصف به، فاتصافه به ممتنع. وما شاء، كان ووجب وجوده. وما لم يشأ، لم يكن وامتنع وجوده. فالممكن مع مرجحه التام واجب وبدونه ممتنع.


الصفحة التالية
Icon