ولا يمكن القول بأن الله يدبر هذا العالم إلا بذلك، كما اعترف بذلك أقرب الفلاسفةإلى الحق، كأبي البركات صاحب [ المعتبر ] وغيره.
وأما قولهم : يلزم أن للخلق خلقًا آخر، فقد أجابهم من يلتزم ذلك ـ كالكرامية وغيرهم ـ بأنكم تقولون : إن المخلوقات المنفصلة تحدث بلا حدوث سبب أصلًا. وحينئذ، فالقول بحدوث الخلق الذي تحصل به المخلوقات بلا حدوث، سبب أقربإلى العقل والنقل.
وهذا جواب لازم على هذا التقدير ـ تقدير قيام الأمور الاختيارية.
والكرامية يسمون ما قام به [ حادثًا ]، ولا يسمونه [ مُحْدَثًا ]، كالكلام الذي يتكلم به ـ القرآن، أو غيره ـ يقولون : هو حادث، ويمنعون أن يقال : هو محدث؛ لأن [ الحادث ] يحدث بقدرته ومشيئته كـ [ الفعل ]. وأما [ المحدث ] فيفتقرإلى إحداث، فيلزم أن يقوم بذاته إحداث غير المحدث، وذلك الإحداث يفتقرإلى إحداث، فيلزم التسلسل.
وأما غير الكرامية من أئمة الحديث والسنة والكلام، فيسمون ذلك [ محدثًا ]، كما قال :﴿ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ ﴾ [ الأنبياء : ٢ ]، / وفي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال :( إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ). والذي أحدثه هو النهي عن تكلمهم في الصلاة.
وقولهم :[ إن المحدث يفتقر إلى إحداث، وهلم جرًا ]، هذا يستلزم التسلسل في الآثار، مثل كونه متكلمًا بكلام بعد كلام، وكلمات الله لا نهاية لها، وأن الله لم يزل متكلمًا ـ إذا شاء. وهذا قول أئمة السنة، وهو الحق الذي يدل عليه النقل والعقل.
وكذلك أفعاله، فإن الفعل والكلام صفة كمال. فإن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يخلق أكمل ممن لا يخلق. قال تعالى :﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ النحل : ١٧ ].
وحينئذ، فهو مازال متصفًا بصفات الكمال. منعوتًا بنعوت الإكرام والجلال.