والقول الثاني : أنها كما دلت عليه أفعال تقوم بذاته بمشيئته / واختياره، كما قالوا مثل ذلك في الأفعال المتعدية. وهذا قول أئمة السنة، والحديث، والفقه، والتصوف، وكثير من أصناف أهل الكلام، كما تقدم.
وعلي هذا، ينبني نزاعهم في تفسير قوله :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ﴾ [ البقرة : ٢٩ ].
وقوله :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ].
وقوله :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [ يونس : ٣ ]، ونحو ذلك.
فمن نفي هذه الأفعال يتأول إتيانه بإتيان أمره أو بأسه، والاستواء على العرش بجعله القدرة والاستيلاء، أو بجعله علو القدر.
فإن الاستواء للناس فيه قولان : هل هو من صفات الفعل أو الذات ؟ على قولين :
والقائلون بأنه صفة ذات، يتأولونه بأنه قدر على العرش. وهو مازال قادرًا، ومازال عالي القدر؛ فلهذا ظهر ضعف هذا القول من وجوه :
منها : قوله :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ فأخبر أنه استوي بحرف [ ثم ].
ومنها : أنه عطف فعلًا على فعل، فقال : خلق ثم استوى.
ومنها : أن ما ذكروه لا فرق فيه بين العرش وغيره، وإذا قيل : إن العرش أعظم المخلوقات، فهذا لا ينفي ثبوت ذلك لغيره، كما في قوله :﴿ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [ النمل : ٢٦ ]، لما ذكر ربوبيته للعرش لعظمته، والربوبية عامة، جاز أن يقال :[ رب السموات والأرض وما بينهما، ورب العرش العظيم ]، ويقال :﴿ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [ الشعراء : ٤٧، ٤٨ ].
والاستواء مختص بالعرش ـ باتفاق المسلمين ـ مع أنه مستول مقتدر على كل شيء من السماء والأرض وما بينهما. فلو كان استواؤه على العرش هو قدرته عليه، جاز أن يقال : على السماء والأرض وما بينهما.
وهذا مما احتج به طوائف، منهم الأشعري. قال : في إجماع المسلمين على أن الاستواء مختص بالعرش دليل على فساد هذا القول.


الصفحة التالية
Icon