وهذا على وجهين؛ إما أن يريد أن يكتم شيء مما بينه الرسول ﷺ عن جميع الناس فهذا من الكتمان المجرد الذي ذم الله عليه. وهذه حال أهل الكتاب. وعاب الذين يكتمون ما بينه للناس من البينات والهدي من بعد ما بينه للناس في الكتاب. وقال :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ﴾ [ البقرة : ١٤٠ ].
وهذه حال أهل الكتاب في كتمان ما في كتابهم من الألفاظ يتأولها بعضهم. ويجعلها بعضهم متشابها. وهي دلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك. فإن ألفاظ التوراة والإنجيل وسائر كتب الأنبياء ـ وهي بضع وعشرون كتابا عند أهل الكتاب ـ لا يمكنهم جحد ألفاظها، لكن يحرفونها بالتأويل الباطل، ويكتمون معانيها الصحيحة عن عامتهم، كما قال تعالى :﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ﴾ [ البقرة : ٧٨ ].
فمن جعل أهل القرآن كذلك، وأمرهم أن يكونوا فيه أميين لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة، فقد أمرهم بنظير ما ذم الله عليه أهل الكتاب.
وصَبيغ بن عَسْل التميمي إنما ضربه عمر؛ لأنه قصد باتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وهؤلاء الذين عابهم الله في كتابه لأنهم / جمعوا شيئين؛ سوء القصد، والجهل. فهم لا يفهمون معناه ويريدون أن يضربوا كتاب الله بعضه ببعض ليوقعوا بذلك الشبهة والشك. وفي الصحيح عن عائشة أن النبي ﷺ قال :( إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم ).
فهذا فعل من يعارض النصوص بعضها ببعض ليوقع الفتنة ـ وهي الشك والريب ـ في القلوب، كما روي أنه خرج على القوم وهم يتجادلون في القدر، هؤلاء يقولون : ألم يقل الله كذا ؟ وهؤلاء يقولون : ألم يقل الله كذا ؟ فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، ثم قال :( أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟ انظروا ما أمرتم به فافعلوه ).