وأما أهل البدع ـ من أهل الكلام والفلسفة ونحوهم ـ فهم لم يثبتوا الحق، بل أصَّلوا أصولا تناقض الحق. فلم يكفهم أنهم لم يهتدوا ولم يدلوا على الحق حتى أصَّلوا أصولا تناقض الحق، ورأوا أنها تناقض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فقدموها على ما جاء به الرسول.
ثم تارة يقولون : الرسول جاء بالتخييل، وتارة يقولون : جاء بالتأويل، وتارة يقولون : جاء بالتجهيل.
فالفلاسفة ـ ومن وافقهم أحيانًا ـ يقولون : خاطب الجمهور بالتخييل ـ لم يقصد إخبارهم بالأمر على ما هو عليه، بل أخبرهم بخلاف ما الأمر عليه ليتخيلوا ما ينفعهم. وهذا قول من يعرف بأنه كان يعرف الحق، كابن سينا وأمثاله، ويقولون : الذي فعله من التخييل غاية ما يمكن.
ومنهم من يقول : لم يعرف الحق، بل تَخيَّل وخَيَّل، كما يقوله الفارأبي وأمثاله. ويجعلون الفيلسوف أفضل من النبي، ويجعلون النبوة من جنس المنامات.
وأما أكثر المتكلمين فيقولون : بل لم يقصد أن يخبر إلا بالحق، لكن بعبارات لا تدل وحدها عليه، بل تحتاج إلى التأويل ليبعث الهمم على معرفته بالنظر والعقل، ويبعثها على تأويل كلامه ليعظم أجرها.
والملاحدة يسلكون مسلك التأويل ويفتحون باب القرمطة، وهؤلاء يجوزون التأويل مع الخاصة.
وأما أهل التخييل فيقولون : الخاصة قد عرفوا أن مراده التخييل للعامة، فالتأويل ممتنع.
والفريقان يسلكون مسلك إلجام العوام عن التأويل، لكن أولئك يقولون : لها تأويل يفهمه الخاصة.
وهي طريقة الغزالى في [ الإلجام ]. استقبح أن يقال : كذبوا للمصلحة. وهو ـ أيضًا ـ لا يرى تأويل الأعمال كالقرامطة، بل تأويل الخبر عن الملائكة وعن اليوم الآخر. وكذلك طائفة من الفلاسفة ترى التأويل في ذلك. وهذا مخالف لطريقة أهل التخييل.
وقد ذكر الغزالى هذا عنهم في [ الإحياء ] لما ذكر إسرافهم في التأويل، وذكره في مواضع، كما حكى كلامه في [ السبعينية ] وغيرها.