والقسم الثالث : الذين يقولون : هذا لا يعلم معناه إلا الله، أو له تأويل يخالف ظاهره لا يعلمه إلا الله. فهؤلاء يجعلون الرسول وغيره غير عالمين بما أنزل الله. فلا يسوغون التأويل؛ لأن العلم بالمراد عندهم ممتنع. ولا يستجيزون القول بطريقة التخييل لما فيها من التصريح بكذب الرسول. بل يقولون : خوطبوا بما لا يفهمونه؛ ليثابوا على تلاوته والإيمان بألفاظه ـ وإن لم يفهموا معناه. يجعلون ذلك تعبدًا محضَا على رأى المجبرة الذين يجوزون التعبد بما لا نفع فيه للعامل، بل يؤجر عليه.
والكلام على هؤلاء وفساد قولهم مذكور في مواضع. والمقصود ـ هنا ـ أن الذي دعاهم إلى ذلك ظنهم أن المعقول يناقض ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ظاهر ما أخبر به الرسول. وقد بسط الكلام على رد هذا في مواضع، وبين أن العقل لا يناقض السمع، وأن ما ناقضه فهو فاسد. وبين بعد هذا أن العقل موافق لما جاء به الرسول، شاهد له، ومصدق له.
لا يقال : إنه غير معارض فقط، بل هو موافق مصدق، فأولئك كانوا يقولون : هو مكذب مناقض. بين ـ أولا ـ أنه لا يكذب ولا يناقض، ثم بين ـ ثانيًا ـ أنه مصدق موافق.
وأما هؤلاء فيبين أن كلامهم الذي يعارضون به الرسول باطل لا تعارض فيه. ولا يكفي كونه باطلا لا يعارض، بل هو ـ أيضًا ـ مخالف لصريح العقل. فهم كانوا يدعون أن العقل يناقض النقل.
فيبين أربع مقامات : أن العقل لا يناقضه. ثم يبين أن العقل يوافقه. ويبين أن عقلياتهم التي عارضوا بها النقل باطلة. ويبين ـ أيضًا ـ أن العقل الصريح يخالفهم.
ثم لا يكفي أن العقل يبطل ما عارضوا به الرسول، بل يبين أن ما جعلوه دليلا على إثبات الصانع إنما يدل على نفيه. فهم أقاموا حجة تستلزم نفي الصانع، وإن كانوا يظنون أنهم يثبتون بها الصانع.