قلت : القول الثاني الذي حكاه عن ابن كيسان هو قول الفرَّاء. وقد قدمه المْهدَوي على الأول فقال :﴿ مُنفَكِّينَ ﴾، مِن [ انفك الشيء من الشيء ] إذا فارقه. والمعنى : لم يكونوا متفرقين إلا إذا جاءهم الرسول لمفارقتهم ما كان عندهم من خبره وصفته. وكفرهم بعد البينات. قال : ولا يحتاج ﴿ مُنفَكِّينَ ﴾ على هذا التأويل إلى خبر. ويدل على ذلك قوله :﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [ البينة : ٤ ].
قال، وقال مجاهد : المعنى لم يكونوا منتهين عما هم عليه. وعن مجاهد ـ أيضًا ـ : لم يكونوا ليؤمنوا حتى تأتيهم البينة.
قال : وقال الفراء : لم يكونوا تاركين ذكر ما عندهم من ذكر النبي حتى ظهر. فلما ظهر تفرقوا واختلفوا.
قلت : هذا المعنى هو الذي قدمه. لكن الفراء وابن كَيْسَان جعلا الانفكاك مفارقتهم وتركهم لذكره وخبره والبشارة به. أي : لم يكونوا مفارقين تاركين لما علموه من خبره حتى ظهر. فانفكوا حينئذ. وذاك يقول : لم يكونوا منفكين، أي : متفرقين. إلا إذا جاء الرسول، لمفارقتهم ما كان عندهم من خبره. وهو معنى ما حكاه أبو الفرج : لم يختلفوا أن اللّه يبعث إليهم نبيًا حتى بعث، فافترقوا.
فالانفكاك انفكاك بعضهم عن بعض، أو انفكاكهم عما كان عندهم من علمه وخبره. وهذا القول ضعيف ـ لم يرد بهذه الآية قطعًا. فإن الله لهم يذكر أهل الكتاب، بل ذكر الكفار من المشركين وأهل الكتاب. ومعلوم أن المشركين لم يكونوا يعرفونه ويذكرونه ويجدونه في كتبهم، كما كان ذلك عند أهل الكتاب. ولا كانوا قبل مبعثه على دين واحد، متفقين عليه. فلما جاء تفرقوا.
فيمتنع أن يقال : لم يكن المشركون تاركين لمعرفة محمد وذكره والإيمان به. ولم يكونوا مختلفين في ذلك، ولا متفرقين فيه حتى بعث. فهذا معنى باطل في المشركين.