ولا يستقيم هذا ـ أيضًا ـ في أهل الكتاب. فإن اللّه إنما ذكر الكفار منهم، فقال :﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ﴾ [ البينة : ١ ]. ومعلوم أن الذين كانوا يعرفون نبوته ويقرون به ويذكرونه قبل أن يبعث لم يكونوا كلهم كفارًا، بل كان الإيمان أغلب عليهم.
يبين هذا أنه إذا ذكر تفرق الذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءتهم البينة، فإنه يعمهم فيقول :﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [ البينة : ٤ ]، وأنه لا يقول : كان الكفار من أهل الكتاب متفقين على الحق حتى جاءتهم البينة.
وأيضًا، فاستعمال لفظ [ الانفكاك ] في هذا غير معروف، لا يعرف في اللغة له شاهد. فتسمية الافتراق والاختلاف [ انفكاكًا ] غير معروف.
وأيضًا، فهو لم يذكر لـ ﴿ مُنفَكِّينَ ﴾ خبرًا كما يقال : ما انفكوا يذكرون محمدًا، وما زالوا يؤمنون به، ونحو ذلك. وهذه التي هي من أخوات [ كان ] لا يقال فيها :[ ما كنت منفكًا ]، بل يقال :[ ما انفككت أفعل كذا ]، فهو يلي حرف [ ما ].
وأيضًا، فليس في اللفظ ما يدل على أن الانفكاك عن أمر محمد خاصة. وأيضًا، فهذا المعنى مذكور في قوله :﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ فلو أريد بهذه لكان تكريرًا محضًا.
والقول الأول أشهر عند المفسرين. ومنهم من يذكر غيره، كالبغوي وغيره. فإنه معروف عن مجاهد، والربيع بن أنس، كما في التفسير المعروف عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد :﴿ مُنفَكِّينَ ﴾، قال : منافقين، لم يكونوا ليؤمنوا حتى تبين لهم الحق، وقال الربيع بن أنس : لم يزالوا مقيمين على الشك والريبة حتى جاءتهم البينة والرسل.