فلا يقولون بقول القدرية النفاة للقدر، ولا بقول القدرية المجبرة الذين يستلزم قولهم إنكار الأمر والنهى، والوعد والوعيد، والجزاء بالثواب والعقاب، لا سيما من أفصح منهم بذلك، أو قال : إن من شهد القدر سقط عنه الأمر والنهى والوعد والوعيد.
فآمنوا بما جاءت به الرسل في الجملة، وأوجبوا ما أوجبه الله، وحرموا ما حرمه الله، وآمنوا بالجنة والنار، واجتهدوا في متابعة الرسل. لكن أخطؤوا حيث نفوا القدر، وظنوا أن إثباته يناقض الأمر والنهى والوعد والوعيد، وأنه لا يتم إيمانهم بأن الله عادل صادق حتى يكذبوا بالقدر، وبإخراج أهل الكبائر من النار ظنًا منهم أن الله أخبر بأن كل من كان له ذنب يستحق به العذاب لا يخرجه من النار، ولا يرحمه أبدًا. فلم يجوزوا أن يعذب بذنبه ثم يرحم، بل عندهم من كان له ذنب يستحق به العذاب لم يرحم أبدًا.
وهم - وإن كانوا لم يتعمدوا تكذيب الرسل - فقولهم هذا يتضمن / مخالفة الأخبار المتواترة عند أهل العلم بالحديث عن النبي ﷺ في خروج أهل الذنوب من النار، وشفاعة الشفعاء فيهم. ويتضمن أنهم آيسوا الخلق من رحمة الله - مع تكذيبهم بعموم خلق الله، ومشيئته وقدرته - حيث زعموا أن من الحوادث ما لا يقدر عليه ولا يشاؤه، ولا يخلقه.
وتشبهوا بالمجوس من هذا الوجه، حتى قيل : القدرية مجوس هذه الأمة.
وقابلهم أولئك، فتوقفوا في خبر الله مطلقًا، حتى أنكروا صِنْفَي العموم، فلم يعلموا بخبره ما أخبر به من الوعد والوعيد.
فلا يجزمون بالنجاة للصِّنف الذين يعلم الله أنهم آمنوا وعملوا الصالحات، وكانوا من أعظم الناس طاعة لله، إذا كان لأحدهم سيئة واحدة صغيرة. ولا بالعذاب للصنف الذين يعلم الله أنهم أفجر أهل القبلة وشرها؛ بل يجوزون مع علم الله بهذا وبهذا أن يعذب أهل الحسنات الكبيرة على سيئة صغيرة عذابًا ما يعذبه أحدًا من أهل القبلة، وأن يدخل فجار أهل القبلة الجنة مع السابقين الأولين.


الصفحة التالية
Icon