وهو - سبحانه - قد ذكر أن المظهرين للإيمان ما كان ليدعهم حتى يميز الخبيث من الطيب ويمتحنهم، كما قال تعالى :﴿ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ]، وقال :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [ التوبة : ١٦ ]، وقال تعالى :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ]، وأمثال ذلك.
فكذلك الذين كفروا، لم يكن ليتركهم حتى يبعث إليهم الرسول بالآيات البينات. فهذا معنى قوله :﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [ البينة : ١ ]. وهم إذا جاءتهم البينة، منهم من يؤمن، ومنهم من يكفر.
وإذا قيل : إن الآية تتضمن بعد ذلك المعنى الآخر، وهو أنهم لم يكونوا ليهتدوا ويعرفوا الحق ويؤمنوا حتى تأتيهم البينة؛ إذ لا طريق لهم إلى معرفة الحق إلا برسول يأتي من الله ـ أيضًا، أو لم يكونوا منتهين متعظين - وإن عرفوا الحق - حتى يأتيهم من الله من يذكرهم، فهذا المعنى لا يناقض ذاك.
بخلاف قول من قال : لم يكن المشركون وأهل الكتاب تاركين لمعرفة محمد ولذكره، ولم يكونوا متفرقين فيه، بل متفقين على الإيمان به، حتى جاءتهم البينة، فتركوا الإيمان به وتفرقوا. فإن هذا غير مراد قطعًا.


الصفحة التالية
Icon