ومما يبين ذلك قوله :﴿ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾، ولم يقل :[ حتى أتتهم ]. وأولئك لما لم يفهموا معنى الآية ظنوا أن الموضع موضع الماضي، وأن المراد : ما انفكوا عما كانوا عليه ـ إما من كفر، وإما من إيمان ـ حتى أتتهم البينة. فلما قيل :﴿ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ أشكل عليهم. وقال / بعضهم : لما تأتهم كلها.
وأما على المعنى الصحيح، فالموضع موضع المضارع، كقوله تعالى :﴿ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ]. فإن المراد : ما كانوا مفكوكين متروكين حتى تأتيهم البينة.
وهو - سبحانه - قال :﴿ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾. و [ لم ] وإن كانت تقلب المضارع ماضيًا فذاك إذا تجرد، فقيل :[ لم يأت ]، و [ لم يذهب ] فمعناه :[ ما أتي ] و [ ما ذهب ]
وأما إذا قيل :[ لم يكن يفعل هذا ]، و ﴿ لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ْ ﴾ [ النساء : ١٣٧ ]، فالمقصود معنى الفعل الدائم مطلقًا. وإذا قيل :[ لم يكن فلان آتيًا حتى يذهب إليه فلان ]، بخلاف ما إذا قلت :[ لم يكن فلان قد أتي حتى ذهب إليه فلان ]. ولو قيل :[ ما كان فلان فاعلا لهذا حتى يكون كذا ] كان نحو ذاك، بخلاف ما إذا قيل :[ ما كان فلان قد فعل حتى أتى فلان ]
فنفي المضارع الذي خبره اسم فاعل، وهو الدائم. والمراد : لم يكونوا في الحال والاستقبال متروكين حتى تأتيهم البينة. ولو قيل ـ هنا ـ :[ حتى أتتهم البينة ]، لم يكن موضعه.
وكذلك لو أراد الانتهاء عن الكفر والإيمان، لقيل :﴿ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ أي : لم يكونوا يعرفون الحق حتى يأتيهم نبي يعرفهم، أو لم يكونوا متعظين عاملين حتى يأتي من يعظهم ويذكرهم. فليس هذا موضع الماضي، بخلاف ما لو قيل :[ مازالوا كافرين حتى أتاهم ].