قال : وقال أكثر أهل المعاني : نزل بلسان العرب على مجاري خطابهم. ومن مذاهبهم التكرار إرادة للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز.
قلت : ومن المفسرين من لم يذكر غير الثاني - منهم المهدوي وابن عطية. قال ابن عطية : لما كان قوله :﴿ لَا أَعْبُدُ ﴾ محتملًا أن يراد به الآن، ويبقي المستأنف منتظرًا ما يكون فيه من عبادته، جاء البيان بقوله :﴿ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾، أي : أبدًا ما حييت. ثم جاء قوله :﴿ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾، الثاني ـ حتمًا عليهم ـ أنهم لا يؤمنون أبدًا، كالذين كشف الغيب عنهم، كما قيل لنوح :﴿ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ﴾ [ هود : ٣٦ ]، أما إن هذا فخطاب لمعينين، وقوم نوح قد عموا بذلك.
قال : فهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة. وليس هو بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته، مع الإبلاغ والتوكيد، وزيادة الأمر بيانًا وتبريا منهم.
قلت : هذا القول أجود من الذي قبله من جهة بيانهم لمعنى / زائد على التكرير. لكن فيه نقص من جهة أخري. وهو جعلهم هذا خطابًا لمعينين، فنقصوا معنى السورة من هذا الوجه.
وهذا غلط، فإن قوله :﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴾، خطاب لكل كافر، وكان يقرأ بها في المدينة بعد موت أولئك المعينين، ويأمر بها ويقول : هي براءة من الشرك. فلو كانت خطابًا لأولئك المعينين، أو لمن علم منهم أنه يموت كافرًا، لم يخاطب بها من لم يعلم ذلك منه.
وأيضًا، فأولئك المعينون ـ إن صح أنه إنما خاطبهم ـ فلم يكن إذ ذاك علم أنهم يموتون على الكفر.
والقول بأنه إنما خاطب بها معينين، قول لم يقله من يعتمد عليه. ولكن قد قال مقاتل ابن سليمان : إنها نزلت في أبي جهل والمستهزئين. ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد. ونقل مقاتل وحده مما لا يعتمد عليه باتفاق أهل الحديث، كنقل الكلبي.


الصفحة التالية