ولو أن رجلًا من بني آدم له علم، أو حكمة، أو خطبة، أو قصيدة، أو مصنف، فهذب ألفاظ ذلك وأتي فيه بمثل هذا التغاير، لعلم أنه قصد في ذلك حكمة، وأنه لم يخالف بين الألفاظ مع اتحاد المعنى سدي. فكيف بكلام رب العالمين، وأحكم الحاكمين ؟ لا سيما وقد قال فيه :﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٨٨ ].
فنقول : الفعل المضارع هو في اللغة يتناول الزمن الدائم سوى الماضي، فيعم الحاضر والمستقبل، كما قال سِيبَويه : وبنوه لِمَا مضي من / الزمان، ولما هو دائم لم ينقطع، ولما لم يأت ـ بمعنى الماضي، والمضارع وفعل الأمر. فجعل المضارع لما هو من الزمان دائمًا لم ينقطع، وقد يتناول الحاضر والمستقبل.
فقوله :﴿ لَا أَعْبُدُ ﴾، يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والزمان المستقبل. وقوله :﴿ مَا تَعْبُدُونَ ﴾، يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل. كلاهما مضارع.
وقال في الجملة الثانية عن نفسه :﴿ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾. فلم يقل :[ لا أعبد ]، بل قال :﴿ وَلَا أَنَا عَابِدٌ ﴾، ولم يقل :[ ما تعبدون ]، بل قال :﴿ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾. فاللفظ في فعله وفعلهم مغاير للفظ في الجملة الأول. والنفي بهذه الجملة الثانية، أعم من النفي بالأولي. فإنه قال :﴿ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ بصيغة الماضي. فهو يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي؛ لأن المشركين يعبدون آلهة شتي. وليس معبودهم في كل وقت هو المعبود في الوقت الآخر كما أن كل طائفة لها معبود سوى معبود الطائفة الأخرى.