فقوله :﴿ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ [ الكافرون : ٤ ]، أي : نفسي لا تقبل ولا يصلح لها أن تعبد ما عبدتموه قط. ولو كنتم عبدتموه في الماضي فقط. فأي معبود عبدتموه في وقت، فأنا لا أقبل أن أعبده في وقت من الأوقات.
ففي هذا من عموم عبادتهم في الماضي والمستقبل، ومن قوة براءته وامتناعه وعدم قبوله لهذه العبادة في جميع الأزمان، ما ليس في الجملة الأولى. تلك تضمنت نفي الفعل في الزمان غير الماضي، وهذه تضمنت نفي إمكانه وقبوله لما كان معبودًا لهم ولو في بعض الزمان الماضي فقط. والتقدير : ما عبدتموه ولو في بعض الأزمان الماضية فأنا لا يمكنني ولا يسوغ لي أن أعبده أبدًا.
ولكن لم ينف إلا ما يكون منه في الحاضر والمستقبل؛ لأن المقصود براءته هو في الحال والاستقبال. وهذه السورة يؤمر بها كل مسلم وإن كان قد أشرك بالله قبل قراءتها.
فهو يتبرأ في الحاضر والمستقبل مما يعبده المشركون في أي زمان كان، وينفي جواز عبادته لمعبودهم، ويبين أن مثل هذا لا يكون ولا يصلح ولا يسوغ. فهو ينفي جوازه شرعًا ووقوعًا. فإن مثل هذا الكلام لا يقال إلا فيما يستقبح من الأفعال، كمن دعي إلى ظلم أو فاحشة فقال :[ أنا أفعل هذا ؟ ما أنا بفاعل هذا أبدًا ]. فهو أبلغ من قوله :[ لا أفعله أبدًا ]. وهذا كقوله :﴿ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ﴾ [ البقرة : ١٤٥ ].
فهو يتضمن نفي الفعل ـ بغضًا فيه وكراهة له ـ بخلاف قوله :[ لا أفعل ]. فقد يتركه الإنسان ـ وهو يحبه ـ لغرض آخر. فإذا قال :[ ما أنا عابد ما عبدتم ]، دل على البغض والكراهة والمقت لمعبودهم ولعبادتهم إياه. وهذه هي البراءة.


الصفحة التالية
Icon