وأما الكوفيون فعرفوا هذا وهذا. قال الفراء : نصب النفس على التشبيه بالتفسير، كما يقال : ضقت بالأمر ذرعًا، معناه : ضاق ذرعي به. ومثله :﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾، أي : اشتعل الشيب في الرأس. قال : ومنه قوله : ألم فلان رأسه، ووجع بطنه، ورشد أمره. وكان الأصل : سفهت نفس زيد، ورشد أمره، فلما حول الفعل إلى زيد انتصب ما بعده على التمييز.
فهذه شواهد عرفها الفراء من كلام العرب. ومثله قوله : غُبِنَ فلان رأيه، وبطر عيشه. ومثل هذا قوله :﴿ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ﴾ [ القصص : ٥٨ ]، أي : بطرت نفس المعيشة. وهذا معنى قول يَمَان بن رباب : حمق رأيه ونفسه، وهو معنى قول ابن السائب : ضل من قبل نفسه، وقول / أبي روق : عجز رأيه عن نفسه.
والبصريون لم يعرفوا ذلك. فمنهم من قال : جهل نفسه، كما قاله ابن كَيسان، والزجّاج. قال : لأن من عبد غير الله فقد جهل نفسه، لأنه لم يعلم خالقها.
وهذا الذي قالوه ضعيف. فإنه إن قيل : إن المعنى صحيح، فهو إنما قال :[ سفه ]، و [ سفه ] فعل لازم، ليس بمتعدٍ، و [ جهل ] فعل متعد. وليس في كلام العرب [ سفهت كذا ] البتة بمعنى : جهلته. بل قالوا : سَفُه ـ بالضم ـ سفاهة، أي صار سفيهًا، وسفِه ـ بالكسر ـ أي : حصل منه سفه، كما قالوا في [ فقُه وفقِه ]. ونقل بعضهم : سفهت الشرب إذا أكثرت منه. وهو يوافق ما حكاه الفراء، أي : صار شربه سفيهًا، فسفه شربه لما جاوز الحد.
وقال الأخفش، ويونس : نصب بإسقاط الخافض، أي : سفه في نفسه. وقولهم [ بإسقاط الخافض ]، ليس هو أصلا فيعتبر به، ولكن قد تنزع حروف الجر في مواضع مسموعة، فيتعدي الفعل بنفسه. وإن كان مقيسًا في بعض الصور، فـ [ سفه ] ليس من هذا، لا يقال : سفهت أمر الله، ولا دين الإسلام، بمعنى : جهلته، أي : سفهت فيه. وإنما يوصف بالسفه وينصب على التمييز ما خص به، / مثل نفسه أو شربه، ونحو ذلك.