وأتباع السلف يقولون : إن كلام الله قديم، أي : لم يزل متكلما إذا شاء، لا يقولون : إن نفس الكلمة المعينة قديمة كندائه لموسى ونحو ذلك. لكن هؤلاء اعتقدوا أن القرآن وسائر كلام الله قديم العين، وأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ثم اختلفوا، فمنهم من قال : القديم هو معنى واحد، هو جميع معاني التوراة والإنجيل والقرآن، وإن التوراة إذا عبر عنها بالعربية، صارت قرآنا، والقرآن إذا عبر عنه بالعبرية، صار توراة. قالوا : والقرآن العربي لم يتكلم الله به، بل إما أن يكون خلقه في بعض الأجسام، وإما أن يكون أحدثه جبريل أو محمد، فيكون كلاما لذلك الرسول ترجم به عن المعنى الواحد القائم بذات الرب الذي هو /جميع معاني الكلام. ومنهم من قال : بل القرآن القديم هو حروف أو حروف وأصوات، وهي قديمة أزلية قائمة بذات الرب أزلا وأبدًا، وهي متعاقبة في ذاتها وماهيتها لا في وجودها، فإن القديم لا يكون بعضه متقدمًا على بعض، ففرقوا بين ذات الكلام وبين وجوده، وجعلوا التعاقب في ذاته لا في وجوده ـ كما يفرق بين وجود الأشياء بأعيانها وماهياتها من يقول بذلك من المعتزلة والمتفلسفة ـ وكلا الطائفتين تقول : إنه إذا كلم موسى أو الملائكة أو العباد يوم القيامة، فإنه لا يكلمه بكلام يتكلم به بمشيئته وقدرته حين يكلمه، ولكن يخلق له إدراكًا يدرك ذلك الكلام القديم اللازم لذات الله أزلا وأبدًا، وعندهم لم يزل ولا يزال يقول :﴿ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [ البقرة : ٣٥ ]، و ﴿ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عليكَ ﴾ [ هود : ٤٨ ]، و ﴿ يَا إِبلىسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ ص : ٧٥ ]، ونحو ذلك، وقد بسط الكلام على هذه الأقوال وغيرها في مواضع.


الصفحة التالية
Icon