فمن قال بأن الكلام حروف أو حروف وأصوات مقترن بعضها ببعض أزلًا وأبدًا ـ وهي مع ذلك شيء واحد ـ فقوله معلوم الفساد عند جمهور العقلاء. كما أن من جعلها قولًا واحدًا، فقوله معلوم الفساد عند جمهور العقلاء على كل تقدير، فيمتنع مع القول بوحدة شيء أن يقال : هل بعضه أفضل من بعض أم لا ؟ وأما من أثبت ما يتعدد من المعاني والحروف أو أحدهما، فهذا يعقل على قوله : السؤال عن التماثل والتفاضل. ثم حينئذ يقع السؤال : هل يتفاضل كلام الله وصفاته وأسماؤه، أم لا يقع التفاضل إلا في المخلوق ؟
وعلى هذا، فما ذكره ابن بطال في شرح البخاري لَمَّا تكلم على هذا الحديث حيث قال : قال الملهب ـ وحكاه عن الأصيلي : ومذهب الأشعري وأبي بكر بن الطيب وابن أبي زيد والداودي وأبي الحسن القابسي وجماعة علماء السنة : إن القرآن لا يفضل بعضه بعضًا؛ إذ كله كلام الله ـ تعالى ـ وصفته، وهو غير مخلوق، ولا يجوز التفاضل إلا في المخلوقات، هو نقل لأقوال هؤلاء بحسب ما ظنه لازمًا لهم حيث اعتقد أن التفاضل لا يكون إلا في المخلوق، والقرآن عند هؤلاء ليس بمخلوق. لكن قدمنا أن السلف الذين قالوا : إنه غير مخلوق لم ينقل عن أحد منهم أنه قال : ليس بعضه أفضل من بعض، بل المنقول عنهم /خلاف ذلك. وأما نقل هذا القول عن الأشعري وموافقيه فغلط عليهم، إذ كلام الله عندهم ليس له كل ولا بعض، ولا يجوز أن يقال : هل يفضل بعضه بعضًا أو لا يفضل، فامتناع التفاضل فيه عنده كامتناع التماثل، ولا يجوز أن يقال : إنه متماثل ولا متفاضل؛ إذ ذلك لا يكون إلا بين شيئين.