وهؤلاء يقولون : إن إثبات الصفات يوجب أن يكون جسمًا وليس بجسم. فلا تثبت له الصفات. قالوا : لأن المعقول من الصفات أعراض قائمة بجسم، لا تعقل صفته إلا كذلك. قالوا : والرؤية لا تعقل إلا مع المعاينة، فالمعاينة لا تكون إلا إذا كان المرئي بجهة، ولا يكون بجهة إلا ما كان جسمًا. قالوا : ولأنه لو قام به كلام أو غيره للزم أن يكون جسمًا، فلا يكون الكلام المضاف إليه إلا مخلوقًا منفصلًا عنه.
وهذه المعاني مما ناظروا بها الإمام أحمد في المحنة، وكان ممن احتج على أن القرآن مخلوق بنفي التجسيم أبو عيسى محمد بن عيسى برغوث ـ تلميذ حسين النجار ـ وهو من أكابر المتكلمين، فإن ابن أبي دؤاد كان قد جمع للإمام أحمد من أمكنه من متكلمى البصرة وبغداد وغيرهم ممن يقول : إن القرآن مخلوق، وهذا القول لم يكن مختصًا بالمعتزلة كما يظنه بعض الناس، فإن كثيرًا من أولئك المتكلمين ـ أو أكثرهم ـ لم يكونوا معتزلة، وبشر المْرِيسي لم يكن من المعتزلة، بل فيهم نجارية، ومنهم برغوث، وفيهم ضرارية، وحفص الفرد الذي ناظر الشافعي كان من الضرارية أتباع ضرار بن عمرو، وفيهم مرجئة، ومنهم بشر المريسي، ومنهم جهمية محضة، ومنهم معتزلة، وابن أبي/دُؤَاد لم يكن معتزليًا، بل كان جهميا ينفي الصفات، والمعتزلة تنفي الصفات، فنفاة الصفات الجهمية أعم من المعتزلة، فلما احتج عليه برغوث بأنه لو كان يتكلم ويقوم به الكلام لكان جسما، وهذا منفي عنه، وأحمد وأمثاله من السلف كانوا يعلمون أن هذه الألفاظ التي ابتدعها المتكلمون كلفظ الجسم وغيره ينفيها قوم ليتوصلوا بنفيها إلى نفي ما أثبته اللّه ـ تعالى ـ ورسوله، ويثبتها قوم ليتوصلوا بإثباتها إلى إثبات مانفاه اللّه ورسوله.


الصفحة التالية
Icon