وهكذا مسائل النزاع التي تنازع فيها الأمة في الأصول والفروع إذا لم ترد إلى اللّه والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم اللّه أقر بعضهم بعضًا، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضًا، ولا يعتدى عليه، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله. وهذه حال أهل البدع والظلم كالخوارج وأمثالهم، يظلمون الأمة ويعتدون عليهم، إذا نازعوهم في بعض مسائل الدين، وكذلك سائر أهل الأهواء، فإنهم يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم فيها، كما تفعل الرافضة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء؛ ابتدعوا بدعة وكفروا من خالفهم فيها، /واستحلوا منع حقه وعقوبته.
فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث اللّه به الرسول صلى الله عليه وسلم، إما عادلون، وإما ظالمون. فالعادل فيهم الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره، والظالم الذي يعتدى على غيره، وهؤلاء ظالمون مع علمهم بأنهم يظلمون، كما قال تعالى :﴿ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ﴾ [ البينة : ٤ ]، وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل أقر بعضهم بعضًا، كالمقلدين لأئمة الفقه الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم اللّه ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نوابًا عن الرسول، وقالوا : هذه غاية ما قدرنا عليه، فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعى أن قول متبوعه هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من يخالفه مع أنه معذور.


الصفحة التالية
Icon