فالجواهر العقلية التي يثبتها هؤلاء الفلاسفة يعلم بصريح العقل ـ بعد التصور التام ـ انتفاؤها في الخارج، وأما الملائكة الذين أخبر الله عنهم، فهذه لا يعرفها هؤلاء الفلاسفة أتباع أرسطو، ولا يذكرونها بنفي ولا إثبات، كما لا يعرفون النبوات، ولا يتكلمون عليها بنفي ولا إثبات، إنما تكلم في ذلك متأخروهم ـ كابن سينا وأمثاله ـ الذين أرادوا أن يجمعوا بين النبوات وبين الفلسفة؛ فلبسوا ودلسوا.
وكذلك [ العلة الأولى ] التي يثبتونها لهذا العالم إنما أثبتوا علة غائىة يتحرك الفلك للتشبه بها، وتحريكها للفلك من جنس تحريك الإمام المقتدى به للمؤتم المقتدى، إذا كان يحب أن يتشبه بإمامه ويقتدى بإمامه، ولفظ [ الإله ] في لغتهم يراد به المتبوع الإمام الذي يتشبه به، فالفلك عندهم يتحرك للتشبه بالإله؛ ولهذا جعلوا [ الفلسفة العليا ] و [ الحكمة الأولى ] إنما هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، وكلام أرسطو في علم ما بعد الطبيعة في [ مقالة اللام ] التي هي منتهي فلسفته/ وفي غيرها كله يدور على هذا، وتارة يشبه تحريكه للفلك بتحريك المعشوق للعاشق، لكن التحريك هنا قد يكون لمحبة العاشق ذات المعشوق، أو لغرض يناله منه، وحركة الفلك عندهم ليست كذلك، بل يتحرك ليتشبه بالعلة الأولى، فهو يحبها، أي : يحب التشبه بها، لا يحب أن يعبدها، ولا يحب شيئًا يحصل منها، ويشبه ذلك أرسطو بحركة النواميس لأتباعها، أي : أتباع الناموس قائمون بما في الناموس، ويقتدون به، والناموس عندهم : هي السياسة الكلية للمدائن التي وضعها لهم ذوو الرأي والعقل، لمصلحة دنياهم؛ لئلا يتظالموا ولا تفسد دنياهم.


الصفحة التالية
Icon