ولهذا كان التواتر مقبولًا من جميع أجناس بني آدم؛ لأنهم يخبرون عما شاهدوه وسمعوه، وهذا أمر لا يشترك الخلق العظيم في الغلط فيه، ولا في تعمد الكذب فيه، فإذا علم أنهم لم يتواطؤوا عليه، ولم يأخذه بعضهم عن بعض، كما تؤخذ المذاهب والآراء التي يتلقاها المتأخر عن المتقدم، وقد علم أن هذا مما لا يغلط فيه عادة علم قطعا صدقهم، فإن المخبر إما أن يتعمد الكذب وإما أن يغلط، وكلاهما مأمون في المتواترات، بخلاف ما نفوه وكذبوا به، فإن غالبهم أو كثيرًا منهم ينفون ما لا يعلمون، ويكذبون بما لم يحيطوا بعلمه.
فصار هؤلاء الذين ظنوا الموجودات ما عرفه هؤلاء المتفلسفة، إذا سمعوا ما أخبرت به الأنبياء من العرش والكرسي وقالوا : العرش هو/ الفلك التاسع، والكرسي هو الثامن، وقد تكلمنا على ذلك في [ مسألة الإحاطة ] وبينا جهل من قال هذا عقلًا، وشرعًا، وإذا سمعهم يذكرون الملائكة ظن أنهم العقول والنفوس التي يثبتها المتفلسفة، والقوى التي في الأجسام، وكذلك الجن والشياطين يظن أنها أعراض قائمة بالنفوس، حيث كان هذا مبلغه من العلم، وكذلك يظن ما ذكره ابن سينا وأمثاله من أن الغرائب في هذا العالم سببها قوة فلكية، أو طبيعية أو نفسانية، ويجعل معجزات الأنبياء من باب القوى النفسانية، وهي من جنس السحر، لكن الساحر قصده الشر، والنبي قصده الخير، وهذا كله من الجهل بالأمور الكلية المحيطة بالموجودات وأنواعها، ومن الجهل بما جاء به الرسول، فلا يعرفون من العلوم الكلية ولا العلوم الإلهية إلا ما يعرفه الفلاسفة المتقدمون، وزيادات تلقوها عن بعض أهل الكلام، أو عن أهل الملة.


الصفحة التالية
Icon